وقوله: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾. قال القاسمي: (أي أوصى بعضهم بعضًا بما أنزل اللَّه في كتابه من أمره، واجتناب ما نهى عنه من معاصيه).
وقوله: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾. قال قتادة: (الصبر: طاعة اللَّه). قال الرازي: (دلت الآية على أن الحق ثقيل، وأنّ المحن تلازمه. فلذلك قرن التواصي بالصبر). وقال النسفي: (﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ عن المعاصي وعلى الطاعات وعلى ما يبلو به اللَّه عباده). وتخصيص التواصي بالحق والصبر مع دخولهما في مفهوم الأعمال الصالحة، إنما هو لإبراز مكانتهما ليحصل الاعتناء بهما.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه: (فلا بد من العلم بالمعروف والمنكر، والتمييز بينهما. ولابد من العلم بحال المأمور وحال المنهي. قال: ولا بد أيضًا أن يكون حليمًا، صبورًا على الأذى. فإنه لا بد أن يحصل له أذى. فإن لم يحلم ويصبر كان ما يفسد أكثر مما يصلح، كما قال لقمان لابنه: ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [لقمان: ١٧].
قال: ولهذا أمر اللَّه الرسل -وهم أئمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- بالصبر، كقوله لخاتم الرسل -صلى اللَّه عليه وسلم-، بل ذلك مقرون بتبليغ الرسالة، فإن أول ما أرسل أنزلت عليه سورة ﴿يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾ بعد أن أنزلت عليه سورة ﴿اقْرَأْ﴾ التي بها نُبِّئَ. فقال اللَّه تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾. فافتتح آيات الإرسال إلى الخلق بالأمر بالنذارة، وختمها بالأمر بالصبر) (١).
فسورة "العصر" سورة جامعة لكل خير، ولذلك كان الرجلان من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا التقيا لم يفترقا حتى يقرأها أحدهما على الآخر، كما مضى ذكره. قال الشافعي رحمه اللَّه: (لو فكّر الناس كلهم في هذه السورة لكفتهم).
قال ابن القيم في "مفتاح دار السعادة": (وبيان ذلك أن المراتب أربعة وباستكمالها يحصل للشخص غاية كماله. إحداها معرفة الحق. الثانية عمله به. الثالثة تعليمه من لا يحسنه. الرابعة صبره على تعلمه والعمل به وتعليمه. فذكر تعالى المراتب الأربعة في هذه السورة. وأقسم سبحانه في هذه السورة بالعصر أن كل أحد في خسر، {إِلَّا الَّذِينَ