الخوف وزال موجب القلق والحزن، ولم يبق إلا تسبيح اللَّه وشكره على ما أنعم عليه من الظهور والظفر والشوكة في الأرض وعزّ الدين فوق المناهج كلها، والاستغفار مما كان من خواطر النفس وقلقها وحزنها وضعفها، إنه سبحانه كان للمستغفرين توابًا. ثم الاستعداد عقب ذلك للرحيل عن الدنيا، فقد تمّ الأمر -يا محمد- وكمل الدين وحان وقت اللحاق بالرفيق الأعلى.
فقوله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾. أي: إذا جاءك يا محمد نصر اللَّه على من عاداك، وهم قريش والعرب، وفتح عليك مكة. والنصر هو التأييد الذي يكون به قهر الأعداء وغلبهم والاستعلاء عليهم، والفتح هو فتح مساكن الأعداء ودخول منازلهم. وقيل: فتح قلوبهم -أيضًا- لقبول الحق.
قال النسفي: (﴿إِذَا﴾ منصوب بِسَبِّح، وهو لما يستقبل، والإعلام بذلك قبل كونه من أعلام النبوة. قال: ﴿جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ النصر الإغاثة والإظهار على العدو، والفتح فتح البلاد، والمعنى نصر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على العرب أو على قريش وفتح مكة، أو جنس نصر اللَّه المؤمنين وفتح بلاد الشرك عليهم).
يروي البزار والبيهقي عن ابن عمر قال: (نزلت هذه السورة ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ في أوسط أيام التشريق، فعرف رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه الوداع) (١).
وقال عمر بن الخطاب وابن عباس: (هو أجل رسول اللَّه نُعي إليه). ذكره الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" ثم قال: (وقال ابن عمر نزلت أوسط أيام التشريق في حجة الوداع، فعرف رسول اللَّه أنه الوداع فخطب الناس خطبة أمرهم فيها ونهاهم).
قلت: ولا شك أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قد فهم من نزول هذه السورة أنه الوداع، وأنه لا بد مفارق الدنيا قريبًا إلى الرفيق الأعلى.
يروي البخاري عن ابن عباس قال: [كان عمرُ يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال: لمَ يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه ممن قد علمتم، فدعاهم ذات يوم فأدخله معهم، فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم، فقال: ما تقولون في قول اللَّه عز وجل: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد اللَّه ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئًا، فقال لي: أكذلك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا، فقال: ما تقول؟ فقلت: هو أجل

(١) في سنده نظر، "راجع -زاد المعاد- (٢/ ٢٨٩) "، تحقيق الأرناؤوط، لكن له شواهد.


الصفحة التالية
Icon