زوايا مختلفة بالطبع، ومن المؤكد أن قصائد البدو الوثنيين لم تنتقل إلينا مكتوبة، وإنما بالرواية، وكانت القصائد التي تسجل انتصارات القبيلة من أعز مآثرها، فترويها جيلًا عن جيل. وبالإضافة إلى هذا النوع من المعرفة بين القبيلة وُجِدَ الراوي، ومهمته أن يحتفظ بالأشعار كما تعيها ذاكرته، وفي العصور التي لا تستخدم فيها الكتابة إلا في المدن ولأغراض خاصة، يُعْنَى بالذاكرة عناية كبيرة، وتكون أقدر كثيرًا منها في العصور الحديثة، وليس من المدهش أن تتداول القصائد بهذه الطريقة قرنين أو ثلاثة من الزمان» (١).
ثُمَّ يشير إلى أن اختلاف الرواية أمر محتمل للاعتماد على الرواية الشفوية، غير أن هذا لا يكفي في إبطال هذا الكم من الشعر الجاهلي، فيقول: «ومن الطبيعي أن يظن المرء أن هذه القصائد اعتراها بعض التغيير في أثناء هذا الانتقال، فعدم تثبت الذاكرة يؤدي إلى إسقاط أبيات، أو اضطراب ترتيبها، أو إبدال عبارات منسية بعبارات من الراوي، ومثل هذه الظواهر مألوفة في كل مكان، ولكننا حين نختبر القصائد ذاتها، نجد قدرًا من الشخصية الذاتية يكفينا للقول بأنها في معظمها من عمل المؤلفين المنسوبة إليهم، فالمعلقات السبع مثلًا، كلها قصائد ذوات ذاتية ومزايا عالية، وتقدم لنا شخصيات شديدة التميز، ونفس الأمر نجده في القصائد الثلاث الباقية (للأعشى والنابغة وعبيد) التي عدها كثير من النقاد من المعلقات، فقد تركت شخصية امرئ القيس وزهير ولبيد والنابغة والأعشى طابعها على شعرها، ومن إفراط الخيال أن نظن أن معظم القصائد المنسوبة لهم منحولة في عصر متأخر، ومن تأليف أدباء عاشوا تحت ظروف مغايرة تمام المغايرة، وفي عالم شديد الاختلاف عن أيام الحياة البدوية في الصحراء العربية» (٢).
_________
(١) مقدمة ديوان عبيد بن الأبرص، تحقيق حسين نصار ٢١.
(٢) المصدر السابق ٢١.