إِنَّ عرب الجاهلية الأخيرة هم امتداد لمن سبقهم، ومرحلة حديثة من مراحلهم، والقبائل العربية القديمة كانت لها لغتها أو لغاتها ولهجاتها التي لا يعرفُ الكثير عنها، وتلك اللغة تدرجت في مراحل حتى وصلت إلى المرحلة الأخيرة من اللغة العربية التي نُظِمت بِها قصائدُ الشعر الجاهلي، ثُمَّ نزل بِها القرآن الكريم. ولذلك فالعرب قَديِمو الوجود في الجزيرة العربية، وقد سبقوا عرب الجاهليةِ الأَخيرةِ بقرون لا يعرفُ عددُها.
فالبحث في نشأة الشعر العربي أو أوليته - كالبحث في نشأة العرب أنفسهم، ولغتهم العربية - يعتمد على الظنِّ والتقريبِ، والأدلة الظنيَّة، ولا يوجد لِمَن كتب في هذا الأمر دليلٌ قاطعٌ يُحدِّدُ أولية الشعر العربي، والسبب أَنَّ البحث في أوليات الأمور يَحتاجُ إلى نصوصٍ موثقةٍ يعتمدُ عليها الباحث، ويُمحِّصها، ويُفاضل بينها، ويستخلص منها نتائجهُ، وإذا لم تتوفر هذه النصوص والأدلة - وهو الحاصل في هذه القضية - فإِنَّ البحث يصبح نوعًا من التيه. أَضِفْ إلى ذلك أَنَّ أكثرَ من عُنِيَ بالآثارِ، وقراءة النقوش هم من المستشرقينَ الغربيين، وهم مَحلُّ شَكٍّ كبيرٍ في البحث في تاريخ العرب، حيث يَحرصُ أغلبهم على طمس فضائل العرب، وإنكار تاريخهم وحضارتهم، لا نطلاقهم في بُحوثِهم تلك من منطلقاتٍ عَقَديَّةٍ معاديةٍ للعَربِ (١).
والذين حاولوا معرفة أولية الشعر الجاهلي ربطوه بِحَربِ البَسُوسِ (٢)
_________
(١) انظر: فصول في فقه العربية لرمضان عبد التواب ٢٥، آلهة مصر الفرعونية لعلي فهمي خشيم، المقدمة.
(٢) البَسُوسُ بنت منقذ التميمية، أثار قتلُ كليبٍ ناقةَ جارِها الجَرميِّ جَسَّاسَ بنَ مُرَّةَ فقَتَلَ كليبًا، فاستعرت الحربُ لهذا أربعين سنة، وهي من أشهر حروبِ العربِ، سُمّيت بحربِ البَسوسِ نسبةً لهذه المرأة، حتى ضُرِبَ بشؤمِها المثَلُ فقيلَ: أشأم من البسوس. انظر: ثِمار القلوب للثعالبي ٣٠٧.


الصفحة التالية
Icon