فإنه من الصعوبة تحديد تاريخ دقيق للزمن الذي بدأَ فيه العربُ بقول الشعر؛ لأن الأدلة لا تساعد على الجزم برأيٍ قاطع، ولم يعثر العلماءُ على شعرٍ مُدوَّنٍ بقلمٍ جاهليٍّ، وكل ما يُعرفُ عن هذا الشعرِ مستمدٌّ من مواردَ إسلامية، أَخَذتْ من أفواه الرواة، وكل المحاولات التي بذلت في ذلك من باب المقاربة لا القطع.
يقول الرافعي (١): «وقد تصفحنا التواريخ العربية، وأرجعنا ما نقلوه عن أهل الرواية - وهم مصدر آداب الجاهلية وأخبارها - فرأينا أن ما كتبوه من ذلك إذا صلحَ أَن يُنقل، فهو لا يصلحُ أَنْ يُعقَل» (٢). وهذه من أكبر المشكلات التي تواجه الباحث في الشعر الجاهلي، لأَنَّ ما وصل من شعر الجاهلية منسوبًا لشعراء معروفين كأصحاب المُعلَّقاتِ يُعدُّ شعرًا متكاملَ النضجِ، تامَّ البناءِ، ولا بد أَن يكون قد سُبِقَ بمرحلةٍ بدأ فيها الشعرُ بدايةً ضعيفةً، ثُمَّ تكاملَ وقوي نسجهُ بعد ذلك، حتى استتمَّ على هيئته القائمة.
ولذلك فقد اختلف الباحثون في تحديد تاريخ بداية الشعر الجاهلي تحديدًا دقيقًا، فمنهم من ذهب بعيدًا في أعماق التاريخ وزعم أنَّ الشعر العربيَّ سبق الإسلام بألفي سنة (٣)، وبعضهم ذهب إلى أَنَّهُ سبقهُ بألفِ سنة (٤)، وبعضهم ذهب إلى أَنَّه سبقه بأكثر من سبعة قرونٍ، وحدد تلك البداية بِحادثةِ سيلِ العَرِمِ، وتَفرُّقِ أبناءِ سبأ (٥) اليمنيين في الجزيرة
_________
(١) مصطفى بن صادق بن عبدالرزاق الرافعي ولد سنة ١٢٩٨ هـ وتوفي سنة ١٣٥٦ هـ أديب مصري كبير نثره في الذروة، وشعره دون ذلك. انظر: حياة الرافعي لمحمد سعيد العريان فكله عنه، والأعلام ٧/ ٢٣٥.
(٢) تاريخ آداب العرب ١/ ٣٠٦.
(٣) انظر: تاريخ الأدب العربي لعمر فروخ ٢/ ٧٣.
(٤) الصورة في الشعر العربي لحسن البطل ٣٤.
(٥) قبيلة سبأ تنتسب لسبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، ذكرهم الله في القرآن، وإرساله عليهم سيل العرم العظيم الذي تفرقوا بعده في أنحاء جزيرة العرب =