استعان كل منهما بالشواهد الشعرية يستشهد بها على ما يذهب إليه، ويدعم بها رأيه وتفسيره. ثم جاء بعدهما الإمام ابن قتيبة ولا سيما في كتابه «تأويل مشكل القرآن». فخطا بعلم البلاغة خطوة بعيدة، وقد استطاع أن يعيد تنظيم ما كتبه أبو عبيدة والفراء في كتابيهما، والاستشهاد على ذلك بشواهد من الشعر سبق أن استشهدا بها غير أنه أضاف إليها شواهد جديدة لم يسبق إليها، وقد تداولتها كتب البلاغة بعد ذلك، وأصبحت هي الشواهد السائرة لتلك المباحث البلاغية.
وقد عُنِيَ المفسرون بالشواهد البلاغية، وأوردوا كثيرًا منها في مواضع متفرقة من تفاسيرهم، وبعضهم كان أكثر عناية بها من غيره كالزمخشري في «الكشاف»، الذي أشار في مقدمة تفسيره إلى أهمية علم البلاغة للمفسر، والحاجة الماسة إلى تعلمه لفهم كتاب الله، وقد شَنَّعَ على من يتصدى للتفسير وهو غيرُ بصيرٍ بهذا العلم (١).
وفي زمن أبي عبيدة (٢٠٩ هـ) والفراء (٢٠٧ هـ) لم تكن مصطلحات البلاغة قد اتضحت تمامًا واستقر عليها الأمر؛ ولذلك جاءت المباحث البلاغية في كتابيهما متفرقةً، غَيْر ملتزمةٍ بِمصطلحات البلاغةِ التي عُرِفت فيما بَعدُ، حيث يعدُّ كتابَ الأول منهما أولَ خطوةٍ وصلت في علم البلاغة، فقد تعرض لمباحث التقديم والتأخير، والتشبيه، والكناية، والتمثيل، والاستعارة، والالتفات (٢).
ثم جاء بعدهما ابن قتيبة (٢٧٦ هـ) فاستطاع في كُتبهِ وخاصةً كتابهُ «تأويل مشكلِ القرآنِ» أن يُجلي كثيرًا من مسائل علوم البلاغة، مستشهدًا على ذلك بعدد من الشواهد الشعرية البلاغية، مع بيان وجه الشاهد وتوضيحه، وقد دفعه إلى ذلك الرد على الملاحدة وأشباههم الذين كانوا
_________
(١) الكشاف ١/ ٣.
(٢) انظر: المباحث البلاغية في ضوء قضية الإعجاز لأحمد جمال العمري ٤٢ - ٤٩.