ومائِعِها، وأنَّه قادِر على أن يَجعَل الجامِد مائِعًا والمائِع جامِدًا، وهذا الماءُ المائِعُ المُتدَفِّق الجارِي لمَّا ضرَب مُوسى عَلَيهِ السَّلام بعَصاهُ البَحْر انفَلَق فكان كل فِرْق كالطَّوْد العظيم، كالجبَل العظيم، وهو ماءٌ سائِل ضرَبه مرَّة واحِدة فقَطْ فتَفرَّق البَحْر وصار اثنَيْ عشَرَ طريقًا، كلُّ طريق بينَه وبين الطريق الآخَرَ مِثْلُ الجبَل من الماء، وهذا فَوْق الأمر الطبيعيِّ؛ لأنَّ خالِق الأشياء قادِر على كل شيء سُبْحَانَهُ وَتَعَالى.
وقول المُفَسِّر رَحِمَهُ الله: [فَأُجْرِيَتْ لَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَاليهِنَّ كَجَرْيِ المَاءِ] هذا التَّقديرُ يَحتاج إلى تَوْقيف، يَعنِي: أنَّ الله تعالى أَجْراها له ثلاثةَ أيَّام فقَطْ قد نَقول: إن الله تعالى أَسَال له عَيْن القِطْر يَتَصرَّف فيها كما يَشاءُ، وهذا يَقتَضِي أن تَكون هذه الإِسالةُ مُستَمِرَّةً حيثُما أَرادَها وجَدَها، وهذا هو الأقرَبُ، ولا يُمكِن أن نُحدِّدها بثلاثة أيَّام إلاَّ بدليل من الشَّرْع، إمَّا من الكِتاب أو من السُّنَّة، وليس في الكِتاب تَحديد، وكذلك ليس في السُّنَّة، فالأَوْلى أن نَجعَلها على ظاهِرها.
قال المُفَسِّر رَحِمَهُ الله: [وَعَمَلُ النَّاسِ إِلَى اليَوْمِ مِمَّا أُعْطِيَ سُلَيمانُ] يَعنِي: أن انتِفاع الناس بهذا النُّحاسِ وتَذويبه حتى يَكون كالماء هذا أثَرُه من عمَل سُلَيمانَ عَلَيهِ السَّلام، يَعنِي: أن النُّحَاس إنما ذاب من وقت سُلَيْمانَ عَلَيهِ السَّلام إلى اليَوْم، وقد قِيل: إن النُّحَاس من قَبْلُ كان لا يَذوب أَبدًا، ولكنه في عَهْد سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلام ذابَ وصارَ مُستَمِرَّ الذَّوَبان.
قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾: ﴿مِنْ﴾ للتَّبْعيض، و ﴿الْجِنِّ﴾ عالَم غَيْبِيٌّ مُستَترٌ عن الأَعْيُن؛ ولهذا جاء بلَفْظ الجِنِّ، وأَصْل هذه المادَّةِ -الجِيمُ والنُّون- الاستِتار؛ ومنه سُمِّيَت الجُنَّة التُّرْس الذي يَستَتِر به الإنسان، وسُمِّيَتِ الجنَّة للبُستان الكثير الأشجار؛ لأنه يَجِنُّ مَن فيه، أي: يُغطِّيه، وسُمِّيَت


الصفحة التالية
Icon