مُدُن تَكون في الغالِب طُرُقًا مُهلِكة مُخيفة، لكن إذا كانت مُتواصِلة صارت أَيسَرَ للسالِكِ، وأَشَدَّ طُمأنينةً، بل وأَقرَبَ للسَّيْر؛ لأنك إذا مَشَيْت من قرية إلى أُخرى تُحِسُّ أنك قطَعْت مَرحَلة، مثل القُرآن الكريم: لمَّا جُعِل آياتٍ وسُورًا وأَجزاءً صار أَسهَلَ للقارِئِ، الكِتاب إذا كان مُفضَلًا بأبواب وفصول صار أَيسَرَ، والطريق الحِسَّيُّ أيضًا طريق الأرض إذا كان فيه قُرًى مُتوالية صار أَيسَرَ من الطريق الطويل الذي يَمَلُّ الإنسان ولا يَرَى أنه قَطَع مَرْحَلة فيه.
ولهذا قال الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ﴾
قال المُفَسِّر رَحِمَهُ اللَّهُ: [وَقُلْنَا: سِيرُوا]، وعليه فتكون هذه الجُملةُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ، مَقولًا لقولٍ مَحذوفٍ (قُلْنا: سِيروا)، وهذا القولُ شرْعيٌّ أو قدَرِيٌّ؟
الجوابُ: قدَريٌّ؛ يَعنِي: أنَّ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال لهم: سِيروا في هذه الطُّرُقِ فيها لياليَ، أي: في هذه القُرَى، ﴿لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ﴾ لا تَخافون لا في لَيْلٍ ولا في نَهار، وهذه من نِعَم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنهم يَسيرون ليلاً ونَهارًا آمِنين لا يَخافون من أَحَد، ولا يَخافون من تَلَف، ولا يَخافون من انقِطاع ماء، ولا مِن فَقْدِ طعام، ولكن لم يَصبِروا على هذه النَّعْمة - والعِياذُ بالله تعالى- ﴿فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا﴾ ما شَكَروا النَّعْمة، وكان عليهم أن يَشكُروا الله تعالى على هذه النِّعْمةِ، وَيغتَبِطوا بها، ولكنهم لم يَصبِروا عليها حتى سأَلوا الله تعالى أن يُباعِد بين أَسفارِهم، فتكون الأسفار طويلة ما فيها قُرًى.
وهذا نَظيرُ قَوْل أصحاب مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ له: ﴿لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا﴾ [البقرة: ٦١]، بينما كانوا في الأَوَّل يَأكُلون رَغدًا من المَنِّ والسَّلوى بلا تَعَبٍ وطعامًا