معَكم مَقام المُنصِف؛ فإمَّا نحن على الحَقِّ وأنتُمْ على الباطِل، وإمَّا أنتُمْ على الباطِل وأنتُمْ على الحَقِّ، ليس هناك سَبيل ثالِث.
ثُمَّ قال تعالى: ﴿قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ]؛ لأنَّنا بَريئُون مِنكم، {قُلْ﴾ لهم مخُاطِبًا إيَّاهم في مجُادَلتهم ﴿لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا﴾ والجُرْم والإِجْرام بمَعنَى: الذَّنْب؛ يَعنِي: الذي وقَعْنا فيه من الإِجْرام لا تُسأَلون عنه؛ قال تعالى: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ﴾ [البقرة: ١٣٤]، وقال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ [البقرة: ٢٨٦] فالإنسان لا يُسأَل عن جُرْم غيره، ولا يُسأَل غيرُه عن جُرْمه، كذلك لا نُسأَل عمَّا تَعمَلون من إِجْرام أو غيرِه.
وفي هذه الجُمْلةِ في الحقيقة غَضاضة على النَّفْس أكثَرَ من الغَضاضة على الخَصْم: فبالنِّسْبة لنا قُلْنا: لا تُسأَلون عمَّا أَجْرَمنا؛ أوَّلاً: وَصَفْنا عمَلَنا بأنه إِجْرام، وثانياً: وصَفْناه بالفِعْل الماضي الدالِّ على الوُقوع: ﴿عَمَّا أَجْرَمْنَا﴾.
وفي الخَصْم قُلْنا أوَّلاً: ﴿وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾، وليس عمَّا تُجرِمون؛ وكل هذا مِن باب التَّلطُّف، والله يَعلَم مَن المُجرِم مِن غيره، لكن لأَجْل أن نُقيم الحُجَّة على هؤلاءِ بأنَّنا عامَلْناهم بأكمَلِ العَدْل والإِنْصاف، بل بما ظاهِره الغَضاضة علينا؛ وثانيًا أنَّه قال تعالى: ﴿عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ ولم يَقُل: عمَّا عمِلْتم. ومَعلوم أن الماضِيَ محُقَّق الوُقوع، والمُضارع قد يَقَع وقد لا يَقَع فـ ﴿عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ يَعنِي: ما عمِلْتم.
فتَأمَّلْ كيف كانت هذه المُحاجَّةُ في ظاهِرها الغَضاضة على المُسلِمين؛ ففي الأوَّل: وإنَّا أو إِيَّاكُم. هذه مَرتَبة، وهي كافِية في إقامة العَدْل والإنصاف، لكن الثَّانية أعظَمُ منها: ﴿قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾.