فَإنْ قِيلَ: إذا كانوا يَعبُدون المَلائِكة، كما هو ظاهِر السِّياق فكيف عِبادتهم للجِنِّ؟
فالجوابُ: هنا عِبادتهم للجِنِّ عِبادة طاعة، أيْ أنهم يُطيعونهم في الإشراك فالجِنُّ تَأمُرهم أن يَجعَلوا المَلائِكةَ شُرَكاءَ مع الله تعالى في العِبادة فيُطيعونهم، ومَن أَطاع غيرَ الله تعالى في مَعصية الله تعالى فقَدِ اتَّخَذه إِلهًا، قال الله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ﴾ [التوبة: ٣١]، وقد رُوِيَ أنهم كانوا إذا أَحَلُّوا ما حرَّم الله أَحَلُّوه، وإذا حرَّموا ما أحَل الله حرَّموه، فجعَلوهم إلَهةً مع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في التحليل والتحريم والطاعة، فيَكون مَعنَى قوله تعالى: ﴿بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ﴾ أي: يُطيعونهم في عِبادة الملائِكة، ومَن أَطاع غيرَه في مَعصية الله تعالى فقَدِ اتَّخَذه إلَهًا.
وقوله تعالى: ﴿أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ﴾ أي: مُصدِّقون فيما يَقولون لهم.
وقوله تعالى: ﴿أَكْثَرُهُمْ﴾ ولم يَقُلْ: كلهم. مع أن الجميع يَعبُدون الملائِكة طاعَةً للجِنِّ.
فلماذا عَبَّروا بقولهم: أكثَرهم. ولم يَقولوا: كلُّهم؟
جوابُ ذلك أن يُقال: إنَّ هؤلاءِ المُشرِكين يَنقَسِمون إلى قِسْمين: قِسْم عامَّةٌ أتباعٌ، لا يَعرِفون شيئًا، وجَدوا آباءَهم على دِين فمَشَوْا عليه، والقِسْم الآخَر مجُتَهِدون يَعرِفون الأَمْر ولكنهم يُؤمِنون بهؤلاء الجِنِّ ويُصدِّقونهم، وَيكفُرون بالرُّسُل، وهؤلاء همُ الأكَثرُ، ومع ذلك فإن الأَتْباع -وهم القِسْم الأوَّل- إذا تَبيَّن لهم الحقُّ وأَصَرُّوا على اتِّباع هؤلاء وقالوا كما قالَتِ الأُمَم: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الزخرف: ٢٢]، فإنهم مُستَحِقُّون للعذاب؛ لأنهم كفَروا على بَصيرة.