ومع ذلك فإنه لا يَتَمكَّن منه، فهؤلاء يَبعُد عنهم كل البُعد أن يَنالوا ما يُريدونه من هذا الإيمانِ؛ لأن هذا الإيمانَ ضَروريّ، يَعنِي: أنهم اضْطُرّوا إليه، حين رَأَوُا العذابَ قالوا: ﴿آمَنَّا بِهِ﴾ بل كانوا يَقولون: إنهم لو رُدُّوا إلى الدنيا لآمَنوا. ولكن الله تعالى كذَّبهم بقوله: ﴿بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [الأنعام: ٢٨]. فهُمْ بإيمانهم هذا إنما يُريدون الخَلاص من العَذاب، ولكن العَذاب بَعد وقوعه لا خَلاصَ منه.
وهذا له شَواهِدُ في القرآن كثيرةٌ:
قال الله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ [غافر: ٨٤، ٨٥].
وقال تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾ [النساء: ١٨].
وقوله تعالى: [﴿وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ﴾ أَيْ: تَنَاوُل الْإِيمَانِ ﴿مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ عَنْ مَحَلِّهِ، إِذْ هُم فِي الآخِرَةِ وَمَحَلُّهُ فِي الدُّنْيَا]، وهذا بعيد؛ لأنَّ ما مضى من الزمَن لن يَرجِع حتى الأيامُ الماضية في الدُّنيا لا يُمكِن أن تَرجِع، فيَوْم الأحَد اليومَ ليس هو يومَ الأَحَد الماضي، كان وافَقه في الاسْمِ، لكنه غيره، فالشيءُ الماضِي بعيد، والشيء المُستَقبَل قريب، والماضي بَعيد وإنَّ قرُب، والمُستَقبَل قريب كان بعُد؛ لأنَّ كل آتٍ قريب.
إِذَنْ نَقول: إن هؤلاءِ حكَى الله - سبحانه وتعالى - عنهم أنهم يَقولون حين يَفزَعون ويُؤخَذون بالعذاب يَقولون: (آمنَّا)، ولكن هذا الإيمانَ لا يَنفَعُهم؛ لأنهم يَتَناوَلونه من مَكان بعيد.


الصفحة التالية
Icon