فعلى كُلِّ حالٍ، في عَهْد آدمَ لم يكنْ حاجةٌ إلى الرِّسَالَةِ، إنَّما النبوَّة فقطْ، وهو يَتَعَبَّد لله وأبناؤُه، بل أولاده يَتَّبِعُونَه في ذلك على وجهِ الإتِّفاقِ بينَهم.
ولمَّا كَثُرَتِ الأُمَّةُ وانتشرتْ في الأَرْض اختلفوا، فصارتِ الحاجةُ والضَّرورَةُ داعيةً إلى إرسالِ الرُّسُلِ، فبعث اللهُ تَعالَى نوحًا، وهو أوَّلُ رَسُولٍ أرسلَهُ اللهُ إلى الأَرْضِ، كما يُشيرُ إلى ذلك قولُهُ تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [النِّساء: ١٦٣]، وكما هو صَحِيحٌ صريحٌ في حديثِ الشَّفاعَةِ: "وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا، فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللهُ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ" (١).
وإذا قلنا: إنَّه أوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَه الله إلى أهلِ الأَرْضِ، فهل نقولُ: إنه أُرسِلَ إلى النَّاسِ كافَّةً، فيُحتاج حينئذٍ أنْ نجمعَ بينَه وبينَ قَوْلِ النَّبيِّ - ﷺ -: "وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كافَّةً" (٢)؟
قلنا: هو أوَّلُ رَسُولٍ؛ لأنه لو شارَكَهُ غيرُه ما كَان هو الأوَّلَ، لكَانَ هو وغيره هو الأوَّل. وقد يقول قائلٌ: لعلَّ أحدًا بُعِثَ في حياة نُوحٍ، لكن في غيرِ مكانِه، وقد نقولُ بظاهرِ الأوَّل، وإنه إنَّما بُعِثَ إلى النَّاسِ لأن النَّاس كَانوا في ذلكَ الوقتِ أُمَّةً واحدةً قليلينَ، لم يَنتشروا كثيرًا في الأَرْض، فكَان هؤُلاءِ النَّاس بمنزلةِ القومِ في الرُّسُلِ الَّذينَ بعدَهم، وعلى هذا الطريق نَسْلَمُ منَ الإشكالِ الآخَرِ، وهو أنَّ الله تَعالَى أغرقَ جميعَ أهلِ الأَرْضِ في عهدِ نوحٍ، إلا مَن آمَنَ معه، إذ يُقالُ: كيف يُغْرَقُون ولم يَبْعَثْ إليهم رسولًا؟ فلولا أنَّ نوحًا كَان رسولًا إليهم ما أُغرقوا

(١) أخرجه البخاري: كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، رقم (٦٥٦٥)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، رقم (١٩٣).
(٢) أخرجه البخاري: كتاب الصلاة، باب قول النبي - ﷺ -: "جُعِلَتْ ليَ الأرضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا"، رقم (٤٣٨)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم (٥٢١).


الصفحة التالية
Icon