وعلى هذا يَتَبَيَّن لنا أن هؤُلاءِ الَّذينَ يحاوِلون أنْ يَصِلُوا إلى الكواكبِ، ويُطْلِقوا هذه الأقمارَ الَّتي لا يَستفيدون منها في الأَرْض مثل قوم عادٍ تمامًا، يَعْنِي: الطريقة هي الطَّريقة، وإنْ كَانَ الأسلوبُ مختلِفًا، يَعْنِي: يفعلون هذه الأشياءَ آيةً وعَبَثًا؛ إذ لا يَستفيدونَ منها فيما خُلِقَ لهم: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: ٢٩]، وليس الَّذي في السماء، لكن الَّذي في الأَرْضِ هو الَّذي مخلوقٌ لنا، فانْتَفِعُوا به مباشرةً، أمّا الذي في السَّماء فمُسَخَّر لمِصالحنا، ولكنَّنا لا نَنْتَفِع به مباشرةً، فالَّذي يُنْتَفع به مباشرةً هو ما في الأَرْضِ.
ولهذا يقول بعضُ النَّاسِ: لماذا تحاولونَ أنْ تَصِلُوا للسماءِ وأنتم عاجزونَ عن حلّ مشاكلكم في الأَرْضِ؟ وهذا صحِيحٌ، لكنَّهم يَعْمَلُونَ هذا لمجرَّدِ العَبَثِ والفَخْرِ، وأنَّهم أقوياءُ، معَ أنّ قومَ هُودٍ، وهؤُلاءِ القوم أيضًا المعاصرونَ يَخْسَرون على هذه الأمورِ خسائرَ باهظةً، فصارتْ عَبثًا؛ لأن كلَّ شَيْءٍ يُتْعِب الإِنْسان فيه جِسْمَه ومالَه وفِكْرَه بدون فائدةٍ، فهو عَبَثٌ، ولا فائدةَ منه.
بل إنه إذا أرادَ ما وراءَه من إظهارِ العَظَمَةِ والكِبرياء على الخَلْق، صار أيضًا فَسادًا، فصار إيجابيًّا لا سلبيًّا فقطْ، إيجابيًّا لأنه فسادٌ، وهو ينكِر عليهم هذا الأمرَ: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ﴾.
وأمَّا ما سَلَكه المُفَسِّر رَحِمَهُ اللهُ من أنَّهم يَجْعَلُون علاماتٍ للمارَّة لأجل إذا مَرُّوا بهم يَسْخَرُونَ منهم؛ فهذا بعيدٌ عن السِّياق، وإن كَان السياقُ لا يَمْنَعُه لكنَّه لا يؤيِّده، فالصَّوابُ في هذه الآيةِ أنَّهم يبنونَ بناياتٍ عظيمةً، تدلُّ على قُوَّتهم وقُدْرَتهم عَبَثًا؛ لأنَّهم لا يَستفيدون منها سِوَى إظهارِ العَظَمَةِ فقطْ، وهذا لا شكّ أنه عَبَثٌ.