وقَوْلُ المُفسِّر رَحِمَهُ اللهُ: [﴿مَصَانِعَ﴾ لِلْمَاءِ تَحْت الْأَرْض]، قد يُنازَع فيها أيضًا، بأن يُقالَ: إن المُراد بالمصانِعِ مكَانُ الصناعةِ، يَعْنِي أنَّهم أيضًا اتَّخَذوا مصانعَ كَثِيرَةً، كما تدلُّ عليه صِيغة مُنْتَهَى الجُمُوع (مَفَاعِل)، ثم إنها قويَّة؛ لقَوْلِهِ: ﴿لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ﴾؛ لأنه لا أحدَ يَبني شيئًا للبقاءِ الكثير إلا ويُحكِمه ويُتْقِنُه.
فيكون هودٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أنّبَهم في أمرينِ:
الأمرُ الأوَّلُ: اتِّخاذ الآياتِ - الأبنية القويَّة العظيمة - عَبَثًا وإظهارًا للقوة والفخر.
الأمر الثَّاني: هذه المصانع العَظِيمة الَّتي اتَّخَذُوها لأجْلِ أن يَخْلُدُوا ويَبْقُوا فيصنعوا فيها، وقد قالَ الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (٦) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ﴾ [الفجر: ٦ - ٨]، وهذه العماد العظيمةُ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ لا بُدَّ أنْ تكونَ ناتجةً عن مصانع قويَّة لِتُوَلِّدَ هذه الموادَّ ﴿لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ﴾.
ثم قال: من جَبروتهم أيضًا العدوانيّ ﴿وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ﴾؛ لأن الأوَّل جَبَرُوت مِعْمَارِيّ، والثَّاني مَصْنَعِيّ، والثالث الجَبَرُوت العُدواني.
وقِس هذه الأشياء على وَقْتِنا الحاضِرِ، فتَجِدها مُنْطَبِقَةً تمامًا، فهناك مَن يَتَّخِذُونَ من هذه القُوَّة آيةً للفَخْرِ والعَبَث، ثم هذه المصانع أيضًا الَّتي يَتَّخِذُونها - مصانع القنابل الذَّرِّيَّة والنَّوَوِيَّة وغيرها - لأجْلِ أن يَخْلُدُوا؛ حتى لا يَتَسَلَّط عليهم أحدٌ، وحتى تكون لديهم السيطرةُ في هذه المصانعِ.
وكذلك الثالث، وهو قوله تعالى: ﴿وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ﴾ يَعْنِي: إنكم تَبْطِشُون، فهو موْجودٌ كذلك.