عليهم وفتحَ عليهم الدُّنيا، فالأمطارُ تأتيهم كلَّ وقتٍ، والأَرْضُ مُخَصَّبَة، فنقول له: ﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ﴾؟ !
ونقول: إنَّ هذا أشدّ في وَقْعِ العذابِ في قُلوبهم؛ لأنَّ الإِنْسانَ الذي يُنَعَّم في رَغَدٍ مِنَ العَيْش بهناءٍ وطُمأنينة إذا أُخذَ فهو أشدّ منَ الَّذي يُؤخَذ على بَأْسِهِ، بل الذي في البأساءِ والضرَّاء قد يَرَى أن الموت أريحُ له، أمّا المأخوذُ - والعياذ بالله - على شِدَّة النِّعمة وقوَّتها فهو أشدّ.
وقد ذُكر عنِ ابنِ حَجَر رَحِمَهُ اللهُ وهو قاضي القُضاة في مِصْر، أنَّه كان يَمشي بموكبه، وعلى يمينه ويَسَارِهِ النَّاسُ والخَدَمُ، فمرّ برجلٍ زَيَّات يَهُودِيّ كله وَسَخٌ مِنَ الزَّيتِ، فأوقفه الْيَهُوديّ وقال له: إن نبيَّكم يقول: "الدُّنْيَا سِجْنُ المُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ" (١)، وأنتَ مؤمنٌ وأنت في هذا النَّعيم، وأنا يهوديٌّ وأَحْيَا فيما ترى منَ الفقر والعذابِ؟ ! فقال له ابن حَجَر: نعم صَحِيح، لكن ما مُتِّعْتُ به مِنَ النِّعمة هو بالنِّسبة إلى نَعيم الآخرةِ سِجنٌ، وما أنتَ فيه مِنَ البَأْسَاءِ هو بالنِّسبةِ إلى عَذابِ الآخِرَةِ نَعيمٌ وجَنَّةٌ (٢).
فالحاصل: أن هؤُلاءِ إذا مُتِّعُوا طَويلًا في الدُّنيا ونعيمها ثم جاءهمُ العذابُ فإِنَّه لا يُغْنِي عنهم هذا المتاعُ شَيئا.
وقَوْلهُ: ﴿مَا أَغْنَى عَنْهُمْ﴾ لك أن تقولَ: إنَّ (ما) هنا نافيةٌ، ولك أن تقول: إنَّها استفهاميَّة بمَعْنى النفيِ، والأبلغُ أن تكون استفهاميةً بمَعْنى النفيِ؛ لأنَّ الإسْتِفهامَ
(٢) فيض القدير (٣/ ٥٤٦).