فالإسْتِفهام للإنكارِ: أيّ شيْءٍ هُوَ ربُّ العالمينَ الَّذِي زَعَمْتَ أنَّهُ أرسلكَ؟ ! يعني: لَيْسَ هناك ربٌّ، فالتفسيرُ الَّذِي ذهبَ إليه المُفسِّرُ بِناءً عَلَى ما هُوَ معروفٌ مِن أنَّ (ما) - وهو عندَ المناطِقِ أيضًا، لَيْسَ معروفًا فِي اللُّغةِ العربيَّة، بل عند أهل المنطِق - يُسْتَفْهَم بِهَا عن كُنْهِ الشَّيْءِ وحَقِيقَتِه، فقال: إن فِرْعَوْن يَستفهِم عن كُنه الخالقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وحقيقته، ولكن مُوسَى لَمَّا لم يمكنْ أن يجيبَ عن ذلك، عَدَلَ إِلَى بيانِ صفةٍ من صفاتِهِ، فيكون الجَواب من مُوسَى غيرَ مُطابِقٍ للسُّؤالِ، ويُسَمَّى هَذَا بأسلوبِ الحكيمِ، أن يُجابَ السائلُ بغيرِ ما يَتوقَّع.
ولكن ما قاله وما ذهبَ إليه لَيْسَ بصحيحٍ، كما أنكره ابنُ كَثيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تفسيره (١)، وقال: إن هَذَا معناه إقرار فِرْعَوْنَ باللهِ، لكن يسأل عن حقيقةِ هَذَا الإلهِ، فالصَّوابُ أنَّ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أجابَهُ بجَوابٍ مطابِقٍ للسُّؤالِ، وأنَّ فِرْعَوْن يسألُ عن هَذِهِ الربوبيَّة الَّتِي زعمَ مُوسَى أَنَّهُ مُرسَل من ربِّ العالمينَ فقال ﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾؟ ! أيّ شيْءٍ ربُّ العالمينَ الَّذِي أرسلكَ؟ ! وليس معناه: أي شيْء هُوَ مادتُه.
والجَواب: [﴿قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ أي: خالِق ذلك]، ولا يكفي أن يفسَّر بالخالق، بل خالق ذلك ومدبِّره، والمتصرِّف فيه؛ لِأَنَّ الربَّ لا يَكفي أن يكونَ خالقًا، بل لا بدَّ مِن خَلْقٍ وتدبيرٍ وتصرُّفٍ.
قال: ﴿السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ وليست ربوبية فِرْعَوْن كهذه الربوبيَّة؟ وفِرْعَوْن يدخل فِي ذلك؛ لِأَنَّ الله ربُّه، لِأَنَّهُ لا يخرجُ عنِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، فهو فِي الأرضِ، وكأنه أيضًا أجاب بهذا إشارةً إِلَى إبطالِ عُبُودِيَّةِ فِرْعَوْن؛