الآية (٢٧)
* * *
* قالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾ [الشعراء: ٢٧].
* * *
(إنّ) للتَّوكيد، و (لمَجْنُونٌ) اللام أيضًا للتَّوكيدِ، فأكّد جنون مُوسَى بأمرينِ؛ بـ (إنّ) واللام، وفي قوله: ﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ﴾ منَ التهكُّم ما هُوَ غيرُ خفيٍّ، يَتَهَكَّم بِهِ لِأَنَّهُ يُنْكِر رسالتَه وينكر ربوبيَّة ما أرسله، فهذا من بابِ التهكُّم به، ثم إنه لم يُضِفْهُ إِلَى نفسِهِ تكبُّرًا، فما قَالَ: إن الرسول الَّذِي أرسلَ إلينا أو إن رسولنا، قَالَ: ﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ﴾، وهذا عُلُوٌّ منه وتكبُّر وتهكُّم بمُوسَى.
فالعلوُّ والتكبُّرُ والترفُّعُ حيث أضافه إليهم، فكأنَّه هُوَ فِي شأنٍ أعلَى مِن أنْ يُرسَل إليه ولا عَلَى سبيلِ التهكُّم، ثم إنَّ إضافةَ الرِّسالَةِ إليهم وَهُوَ ينكِر ذلك تهكُّمٌ بمُوسَى ظاهرٌ، فقوله: ﴿الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ﴾ ولم يقلْ: أرسله ربُّ العالمينَ، مع أن مُوسَى قَالَ: إنِّي رسول ربِّ العالمينَ؛ لِأَنَّهُ ما سَمَحَ لنفسِه أن يصفَ اللهَ تعالى بالربوبيَّة ولا عَلَى سبيلِ التهكُّم.
وقوله: ﴿لَمَجْنُونٌ﴾ المجنونُ: فاقدُ العقلِ، وهذا دَأْبُ جَميعِ الَّذين كذّبوا الرُّسُلَ، قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾ [الذاريات: ٥٢]، يقولون: ساحر أو مجنون، و (أو) هَذهِ مانعةُ خُلُوّ وليستْ مانعةَ جمعٍ؛ لأنَّهم قد يقولون: ساحرٌ فقط، أو مجنونٌ فقطْ، أو ساحرٌ ومجنونٌ، وهذا ما وَقَعَ لِمُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كما سيأتي قريبًا إن شاء الله.