كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}، مع أَنَّهُ فِي الحَقِيقَةِ هَذَا التحدي لولا أنَّ الله ألانَه لكانَ ما تَحَدَّاه به؛ إذ مِنَ الجائزِ أن يقولَ له: لا تأتِ به، ومنَ الجائزِ بعدَ أنْ تَحَدَّاهُ أنْ يأتيَ بِهِ مُوسَى، فيكون كذلك حُجَّة عَلَى فِرْعَوْنَ.
فأتى بالآيتينِ العظيمتينِ، وهما آيةُ العصا، وآية اليَدِ، وقابَلَهُما فِرْعَوْن بمثلِ ما قابلَ بِهِ أوَّلًا، وَهُوَ التمويهُ، وادّعاءُ السِّحْر، وأنه ساحرٌ عَليمٌ جيِّدٌ فِي سِحْرِهِ. ثم قَالَ: ﴿يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ [الشعراء: ٣٥]، ما قَالَ: أنْ يُخْرِجَنِي مثلًا، أو أنْ يُخْرِجَنا؛ تَرَفُّعًا وتعظُّمًا أن يبدوَ أمامَ مُوسَى بِمَظْهَرِ الضعفِ الَّذِي يهدِّد، ولكنه خاطبَ بِهِ قومَه.
ثم قَالَ: ﴿مِنْ أَرْضِكُمْ﴾؛ تهييجًا لهم؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لا شكّ أَنَّهُ لا يمكّن أحدًا لِيُخْرِجَهُ مِن أرضِهِ، ولهذا قَالَ: ﴿يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ﴾ ولم يقلْ: من أرضِ مِصْرَ، ولا: منَ الأرضِ؛ تهييجًا لهم عَلَى مقابلةِ مُوسَى بما يقابلونه به، ولأجلِ أن يَكْرَهوا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ويَرَوْا أَنَّهُ عدوٌّ مُسْتَعْمِرٌ.
وقوله: ﴿بِسِحْرِهِ﴾ الباء للسببيَّة، أي: بسببِ سِحره، وفِرْعَوْن هنا قَالَ: ﴿يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ﴾، والمَلَأُ ما قالوا: (بِسِحْرِه)، أما هُوَ فقال: (بِسِحْرِهِ)؛ لأجل أن يُشَدَّهُمْ إلَى طلبِ السَّحَرَة الَّذين يقابلون فِرْعَوْن، قال فِي سُورَة الأعراف: ﴿قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ [الأعراف: ١٠٩ - ١١٠] ولم يقل: (بسحره)، والفرق أن فِرْعَوْن أراد أن يشدّهم، وأن يُغريَهم بما يقابلون بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وقوله: ﴿فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ لَيْسَ المُراد بالأمرِ هنا هُوَ طلب الفعلِ عَلَى وجهِ الإستعلاءِ؛ لِأَنَّ فِرْعَوْن لنْ يَخْضَعَ لقومِهِ حَتَّى يطلبَ منهم أمرًا، ولكن المُراد بالأمرِ