فإن قلت: كيف قال جل شأنه: ﴿ما ودعك﴾، والتوديع: المفارقة، وخاطبه بها؟ قلت: التوديع ليس مثل القلي، فإن الموادعة المفارقة، وتكون من غير مباغضة ولا مقاطعة ولا قلى، بخلاف القلي، فإنه البغض والهجر، والصد. فكان أمره عظيم لا تستطيعه مرارة المحبوبين، ولذا قال قائلهم:

عذب -بغير الهجر- قلبي تجد له على غير جفاك اصطبار
قال الشيخ عبد القاهر: ما من اسم حذف في الحالة التي ينبغي أن يحذف فيها إلا وحذفه أحسن من ذكره.
وسمى ابن جني الحذف: شجاعة العربية؛ لأنه شجع على الكلام.
فائدة:
قال الشيخ عز الدين: لا يقدر من المحذوف إلا أشدها موافقة للغرض، وأفصحها؛ لأن العرب لا تقدر إلا ما لو لفظوا به لكان أحسن وأنسب لذلك الكلام، كما يفعلون ذلك في الملفوظ به، نحو قوله تعالى: ﴿جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس﴾ [المائدة: ٩٧]، قدر أبو علي: جعل الله نصب الكعبة. وقدر غيره: حرمة الكعبة، وهو أولى؛ لأن تقدير «الحرمة» في الهدي والقلائد والشهر الحرام لا يشك في فصاحته، وتقدير: «النصب» فيها بعيد من الفصاحة.
قال: ومهما تردد المحذوف بين الحسن والأحسن وجب تقدير الأحسن، فإن الله سبحانه وتعالى وصف كتابه: بأنه أحسن الحديث، فليكن محذوفه أحسن


الصفحة التالية
Icon