قال القرطبي: "يشيرُ إلى قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾] آل عمران: ٧]، وربما وجه بأنَّ أمَّ الكتاب هو اللوحُ المحفوظ، كما في قوله تعالى: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾] الرعد: ٣٩]، وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾] الزخرف: ٤] " (١).
وقال أنس وابن سيرين: "أم الكتاب: اسم اللوح المحفوظ. قال الله تعالى: ﴿وإنه في أم الكتاب﴾ [الزخرف: ٤] " (٢).
وهذا لا يدلُّ على مَنْعِ تسمية الفاتحة بذلك. والله أعلم.
وقد اختلف في معنى تسميتها بأمِّ الكتاب، على ثلاثة أقوال (٣):
أحدهما: أنها سميت بذلك، لأنَّها تتقدم على بقيَّة سُورِ الكتاب في الخطِّ، فهي تؤمُّ السور بتقدمها عليها، فالكتاب كله راجع إلى معانيها، فهي كالأصل له، كما سُمِّيت مكَّة أمّ القرى، لأن البلدان دُحِيت من تحتها.
والقرآن سمّيت بذلك لأنها أوّل القرآن والكتب المنزلة، فجميع ما أودعها من العلوم مجموع في هذه السورة فهي أصل لها كالأم للطفل.
والثاني: أنها سمّيت بذلك، لأنها أفضل سور القرآن كما أن مكة سميت أم القرى لأنها أشرف البلدان.
والثالث: أنها سمّيت بذلك، لأنها مجمع العلوم والخيرات، كما أن الدماغ يسمى أمّ الرأس لأنها مجمع الحواس والمنافع.
يقول أبو بكر البريدي: "الأم في كلام العرب: الراية ينصبها العسكر، قال قيس بن الخطيم:
نصبنا أمّنا حتى ابذعرّوا | وصاروا بعد إلفتهم شلالا |
ومنه قول ذي الرمة (٤):
وَأَسَمْرَ، قَوَّامٍ إذَا نَام صُحْبَتِي، | خَفِيفِ الثِّيابِ لا تُوَارِي لَهُ أَزْرَا |
عَلَى رَأْسِه أمٌّ لنا نَقْتَدِي بِهَا، | جِماعُ أمورٍ لا نُعاصِي لَهَا أمْرَا |
انزلُوا، وإذا غدَتْ | غَدَتْ ذاتَ بِرْزيقٍ نَنَال بِهَا فَخْرَا |
والعرب تسمي الأرض: أمّا، لأنّ معاد الخلق إليها في حياتهم وبعد مماتهم، قال أمية بن أبي الصلت (٦):
(٢) تفسير القرطبي: ١/ ١١١.
(٣) انظر: النكت والعيون: ١/ ٤٥ - ٤٦، وتفسير الطبري: ١/ ١٠٧.
(٤) ديوانه: ١٨٣.
(٥) انظر: تفسير الطبري: ١/ ١٠٧ - ١٠٨.
(٦) ديوان أمية بن أبي الصلت ٣٥٦، والأول في اللسان والتاج (سفد)، والثاني في المخصص ١٣/ ١٨٠، وبلا نسبة في المذكر والمؤنث للأنباري ١٨٧، في ديوانه: (نوّخها: أبركها. والطروقة: أنثى الفحل، شبه الماء والأرض بالأنثى والفحل) والبيت الثاني ذكره القرطبي في تفسيره، انظر: تفسير القرطبي: ١/ ١١٢.