القول الثاني: أنها أُنزلت بالمدينة.
قاله أبو هريرة ومجاهد وعطاء بن يسار والزهري (١)، روى منصور عن مجاهد قال: "إن إبليس رنَّ أربعَ رنَّاتٍ: حين لُعِنَ، وحين أُهبط من الجنَّة، وحين بُعث النبيُّ - ﷺ -، وحين أُنزلت فاتحة الكتابِ، وأُنزلت بالمدينة" (٢).
قال الحسين بن الفضل: "هذه هفوة من مجاهد، لأنّ العلماء على خلاف قوله" (٣).
وروى الطَّبرانيُّ في "الأوسط": "حدثنا عُبيد بن غنَّام ثنا أبو بكر بن أبي شَيْبَةَ ثنا أبو الأَحْوَصِ عن منصورٍ عن مجاهدٍ عن أبي هريرة: أنَّ إبليسَ رنَّ حين أُنزلت فاتحةُ الكتابِ، وأُنزلت بالمدينة، وقال: لم يروه عن منصور إلا أبو الأحوص، تفرّد به أبو بكر بن أبي شيبة" (٤)، ورواه سفيان وغيره عن منصور ووقفُوه على مجاهدٍ.
واستدلوا على هذا بحديث مشهور في صحيح مسلم: "بينما جبريل قاعد عند النبي -صلى الله عليه وسلم- سمع نقيضاً من فوقه فرفع رأسه فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة" (٥).
فإن قيل: هذا كان في المدينة، فكيف جاء بفاتحة الكتاب وهي نزلت بمكة؟
يقال: هو لم يأتِ بها أصلاً، وإنما بشر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، والبشارة يمكن أن تكون أيضاً على أمرٍ قد مضى، فبين له المزية لسورة الفاتحة وآخر آيتين أوتيهما -صلى الله عليه وسلم- من سورة البقرة، فالبشارة يمكن أن تكون عن شيء كان في الماضي، وهو كذلك، فلا يفهم منه أنه هو الذي نزل بها كما قال بعض المعاصرين: إن بعض القرآن قد ينزل به غير جبريل، فالأمر واضح أن جبريل هو الذي نزل به كما قال تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ﴾ [الشعراء: ١٩٣]، فالقول بأن هذا في الجملة ولا يؤثر على ذلك أن ينزل غيره بآيةٍ أو نحو هذا، فهذا قول غير صحيح.
ومعروف قطعاً أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي بمكة، وكان يقرأ الفاتحة، وآية الحجر تدل على نزولها بمكة.
القول الثالث: أنها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة:
أراد بعض أهل العلم أن يوفق وأن يجمع فقال: نزلت مرتين، مرة بمكة ومرة بالمدينة.
قال الشوكاني: "وقيل: إنّها نزلت مرّتين مرّةً بمكّة ومرّةً بالمدينة جمعًا بين هذه الرّوايات" (٦).
(٢) انظر: الدر المنثور، عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: ٩١١ هـ)، ار الفكر - بيروت: ١/ ١١.
(٣) الإتقان: ١/ ١٢.
(٤) المعجم الأوسط: (٥/ ١٠٠ - رقم: ٤٧٨٨).
(٥) أخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها - باب: فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة والحث على قراءة الآيتين من آخر البقرة (٨٠٦) (ج ١ / ص ٥٥٤).
(٦) فتح القدير: ١/ ٧٣ - ٧٤.