فيكون الفرق في المبالغة، وفرَّق أبو عبيدة بينهما، فقال بأن الرحمن ذو الرحمة، والرحيم الراحم" (١).
واختلفوا في اشتقاق (الرحمن والرحيم)، على قولين (٢):
أحدهما: أنهما مشتقان من رحمة واحدةٍ، جُعِل لفظ الرحمن أشدَّ مبالغة من الرحيم.
قال وكيع: " (الرحيم) أشد مبالغة؛ لأنه ينبئ عن رحمته في الدنيا والآخرة ورحمة الرحمانية في الدنيا دون الآخرة" (٣).
وقالوا: إنهما بمعنى واحد كندمان ونديم، ولهفان ولهيف، وجيء بهما للتأكيد والإشباع، كقولهم: جادٌّ ومُجِدُّ، وقول طَرْفَه (٤) (٥):

مَالِي أَرَانِي وابْنَ عَمِّي مَالِكًا مَتَى أَدْنُ مِنْه يَنْأَ مِنِّي وَيَبْعُدِ
وقول عدي (٦) (٧):
وَقدَّدَت الأَدِيَم لِرَاهِشيْه وأَلْفى قَولَهَا كَذِبًا وَمَيْنَا
في أمثال لهذا، وروي عن ابن عباس أنه قال: " الرحمن الرحيم، اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر" (٨).
(١) النكت والعيون: ١/ ٥٢ - ٥٣.
(٢) انظر: النكت والعيون: ١/ ٥٣.
(٣) حكاه عنه الواحدي في التفسير البسيط: ١/ ٤٦٠، ولم أجده عن وكيع فيما اطلعت عليه. والله أعلم.
(٤) هو الشاعر الجاهلي المشهور، عُدَّ بعد امرئ القيس في الشعر، واسمه (عمرو) ولقب بـ (طَرْفَه) وأحد الطرفاء لبيت قاله، قتل وهو ابن ست وعشرين سنة، وقيل: ابن عشرين. ترجمته في "الشعر والشعراء" ص ١٠٣، "الخزانة" ٢/ ٤١٩.
(٥) البيت من معلقة طرفة المشهورة، يتحدث عما كان بينه وبين ابن عمه (مالك) من جفوة وخصام، (ينأ عني) و (يبعد) معناهما واحد، وإنما جاء بهما لأن اللفظين مختلفان، والمعنى يبعد ثم يبعد بعد ذلك، وقيل: ينأ: بالفعل، ويبعد: بالنفس لشدة بغضه لي. أورد البيت الثعلبي في "تفسيره" ١/ ١٩ أ، وانظر: "ديوان طرفة" ص ٣٤ تحقيق وتحليل د. علي الجندي.
(٦) عدي بن زيد بن حماد، من بني امرئ القيس بن زيد بن مناة بن تميم شاعر فصيح، من شعراء الجاهلية، وكان نصرانيا، قتله النعمان بن المنذر ملك الحيرة. ترجمته في "الشعر والشعراء" ص ١٣٠، "معاهد التنصيص" ١/ ٣٢٥، "الخزانة" ١/ ٣٨١.
(٧) من قصيدة قالها عدي بن زيد، في قصة طويلة مشهورة بين الزَّباء وجذيمة وردت في كتب التاريخ والأدب. ويروي (قدمت) و (الراهش) عرق في باطن الذراع و (المين) بمعنى: الكذب، ورد البيت في "معاني القرآن" للفراء ١/ ٣٧، "الشعر والشعراء" ص ١٣٢، "إعراب القرآن" للنحاس ١/ ١٧٥، "تفسير الثعلبي" ١/ ١٩ أ، ٧٣ أ، "أمالي المرتضى" ٢/ ٢٥٨، "المستقصى" ١/ ٢٤٣، "مغني اللبيب" ٢/ ٣٥٧، "الهمع" ٥/ ٢٢٦، "معاهد التنصيص" ١/ ٣١٠، "اللسان" (مين) ٧/ ٤٣١١، والقرطبي في "تفسيره" ١/ ٣٩٩، "الدر المصون" ١/ ٣٥٨.
والشاهد (كذبا ومَيْنا) فأكد الكذب بالمين وهو بمعناه.
(٨) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ١/ ٩٩، وابن الأنباري في "الزاهر" ١/ ١٥٢، والأزهري في "تهذيب اللغة" (رحم) ٢/ ١٣٨٣، والواحدي في التفسير البسيط: ١/ ٤٦١، والقرطبي في "تفسيره" ١/ ٩٢، وابن كثير عن القرطبي في "تفسيره" ١/ ٢٢، وقد أخرج الطبري وابن أبي حاتم بسنديهما عن ابن عباس، قال: (الرحمن الفعلان من الرحمة، وهو من كلام العرب قال: الرحمن الرحيم: الرقيق الرفيق بمن أحب أن يرحمه، والبعيد الشديد على من أحب أن يعنف عليه) في سنده ضعف. انظر الطبري ١/ ٥٧، "تفسير ابن أبي حاتم" (رسالة دكتوراه) ١/ ١٤٨، وابن كثير في "تفسيره" ١/ ٢٣، "المفسر عبد الله بن عباس والمروي عنه" (رسالة ماجستير) ١/ ١٣٠.


الصفحة التالية
Icon