قال في (الأساس): "وَحَى إليه، وأوحى إليه بمعنى، ووحيت إليه، وأوحيت إذا كلمته بما تخفيه عن غيره، وأوحى الله إلى أنبيائه. ﴿وأوحى ربك إلى النحل﴾ [النحل: ٦٨] " (١).
قال الراغب: "أصل الوحي: الإشارة السريعة، ولتضمن السرعة قيل: " أمر وُحِيٌّ " وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب، وبإشارة ببعض الجوارح، وقد حُمل على ذلك قوله تعالى عن زكريا: ﴿فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ [مريم: ١١] " (٢).
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: "الوحي الإعلام السريع الخفي إما في اليقظة وإما في المنام" (٣).
بهذا يظهر أن الوحي في الأصل: الخفاء والسرعة، وعلى هذا فالوحي في اللغة: "الإعلام الخفي السريع الخاص بمن يوجه إليه بحيث يخفى على غيره" (٤).
جاء في بيان المعاني: " واعلم أن معنى الوحي الإيماء بالتكليم خفية عن أن يفهمه الغير، وأصله الإشارة السريعة على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب وباشارة بعض الجوارح وبالكتابة، وحمل عليه قوله تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام ﴿فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ [المريم: ١١]، ولم يتكلم، وحمل على الإيماء قول الشاعر (٥):
نظرت إليْها نظرةً فَتَحَيَّرَتْ | دَقَائِق فِكْري فِى بَدِيْع صِفَاتِهَا |
فَأوحَى إِلَيْهَا الطرفُ أنَّي أحبّهَا | فأثَّر ذَاكَ الوَحيُ في وَجنَاتِهَا |
أشارت بطرف العين خيفة أهلها | اشارة محزون ولم تتكلم |
فأيقنت أن الطرف قد قال مرحبا | وأهلا وسهلا بالجبيب المتيم |
هذا وقد اتخذت الملوك والأمراء حروفا وكلمات بأرقام اصطلحوا عليها وعبروا عنها باسم شفره، كناية عن هذا المعنى، واستنباطا منه، منعا من أن يفهم الغير ما يتخابرون به، لأن الله تعالى علم البشر كيف يتخاطبون، وكيف يتنعمون، وكيف يعذبون ويعذبون، مما وصفه من أحوال أهل الجنة والنار، وقصه في كتابه المنزل هذا وكتبه السابقة أيضا، وجعل أوائل السور رموزا بينه وبين حبيبه، فلا يعرف معناها إلا هما كما سنبينه في مواضعه إن شاء الله، هذا وان القول الجامع في معنى وحي الله لأنبيائه، هو إعلام خفي سريع خاص بمن بوحيه اليه، بحيث يخفي عن غيره الملاحق له، كما كان يوحي اليه في فراش عائشة فيعلم ما هو المراد وهي لا
(٢) الفمردات في غريب القرآن: ٨٥٨، أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهانى (المتوفى: ٥٠٢ هـ)، دار القلم، الدار الشامية - دمشق بيروت، الطبعة: الأولى - ١٤١٢ هـ.
(٣) مجموع الفتاوى لابن تيمية: ج ١٢ ص ٣٩٨.
(٤) الوحي المحمدي: محمد رشيد رضا ص ٣٧.
(٥) البيتان دون نسبة في منار القاري: ١/ ٢٤، وبيان المعاني: ١/ ٥٤.
(٦) البيت لعمر بن أبي ربيعة في شرح ابيات مغني اللبيب: ١/ ٤٧٦، والأغاني: ١/ ٣٥٦، وشرح الشواهد الشعرية في أمات الكتب النحوية، محمد بن محمد حسن شُرَّاب: ٣/ ٢٧، وغير منسوب في شرح شذور الذهب: ٣٦، والخزانة: ١/ ٢٢٦. وفيهما أن الإشارة نوع من الكلام، أو أن الكلام قد يكون بالإشارة.