من خلال ما تقدم يمكن استخلاص أنَّ الحاجة الماسة لوجود الوحي ملحة جداً لقطع الطريق على المعترضين من المغرضين. وذلك أن الوحي يعطي القول الفصل والحجة التي لا مزيد عليها لبيان الإله الحقيقي الذي يستحق العبادة، وبيان الحلال والحرام وما يحتاج إليه الناس في جميع شؤونهم دون الشعور بالظلم والتحيز والكيل بأكثر من مكيال. يضاف إلى ذلك حصول القناعة والرضا المترتبة حينما يثق الإنسان بأن هذا هو حكم الله تعالى، وليس حكماً قابلاً للنقض صدر من إنسان يعتوره الهوى وحب المصالح. فالله تعالى مبرأ من التحيز والظلم بخلاف البشر.
والقيام بأمر النبوة والرسالة وظيفة ثقيلة تحتاج إلى من يقدر على حملها، ومصداق ذلك قوله تعالى ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾ [المزمل: ٥]، والنبوة والرسالة يقدر عليها الرجال بصفة عامة أكثر من النساء لما يكتنفها من ظروف وأخطار المرأة في منأى عنها. وما ورد من أقوال بأن النبوة قد حصلت للنساء فأقوال فيها نظر لضعف المرأة عن هذه المهام الجسام إلا إذا اعتبرنا ذلك مقصوراً عليها وحدها. وعدم وقوعه هو الراجح عند جمهور العلماء، فالوحي إذن وظيفة شريفة يستحق من يتميز بها الطاعة والاحترام والتقدير والإجلال والنصرة والمتابعة. وهذا لايقدره إلا من خالطت بشاشة الإيمان قلبه فاستحق بذلك المغفرة والرحمة من الله تعالى. وبعكسه من أنكر الوحي وكذب الأنبياء فعوقب بالنار والخلود الأبدي فيها وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه (١).
ثانيا: - نزول القرآن
يطلق الإنزال في اللغة على معنيين: -
أحدهما: الهبوط من علو: يقال: نزل فلان من الجبل، ومنه قوله تعالى ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ [الرعد: ١٧].
الثاني: الحلول: يقال: (نزل فلان بالمدينة)، أي: حلَّ بها (٢)، ومنه قوله تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ﴾ [المؤمنون: ٢٩].
وكلا المعنيين يشعر بالمكانية والجسمية فلا مجال لتحققهما في كلام الله ووحيه فالتعبير إذن هو من قبيل المجاز ولا يمكن حمله على الحقيقة وقد ذهب العلماء إلى أن إنزال القرآن فيها توجيهان:
أ- أن يقصد من إنزال القرآن إنزال حامله وهو الروح الأمين جبريل عليه السلام.
ب- أن يقصد من الإنزال لازمة وهو الإعلام فمعنى إنزال القرآن على النبي -صلى الله عليه وسلم- إيصاله إليه وإعلامه به.
واختير لفظ الإنزال أيضاً لحكمة عظيمة وهي بيان شرف هذا القرآن وعلو منزلته وأنه من العالم العلوي ومن هنا اختيرت لفظة الإنزال على لفظة الإعلام والإيصال قال تعالى ﴿وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ [الإسراء: ١٠٥] (٣).
(٢) المعجم الوسيط - د. إبراهيم أنيس - ٢/ ٩٥١.
(٣) انظر: إتقان البرهان: ص ١٤٦ وما بعدها.