أهل الكتاب يعلمون ذلك (١) فمن لم يقر بذلك من هذه الأمة كان أهل الكتاب المقرون بذلك خيرا منه من هذا الوجه.
ثم قال: "وهذا لا ينافي ما جاء عن ابن عباس وغيره من السلف في تفسير قوله: ﴿إنا أنزلناه في ليلة القدر﴾ أنه أنزله إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم أنزله بعد ذلك منجما مفرقا بحسب الحوادث. ولا يتنافى أنه مكتوب في اللوح المحفوظ قبل نزوله، كما قال تعالى: ﴿بل هو قرآن مجيد﴾ ﴿في لوح محفوظ﴾ وقال تعالى: ﴿إنه لقرآن كريم﴾ ﴿في كتاب مكنون﴾ ﴿لا يمسه إلا المطهرون﴾ وقال تعالى: ﴿كلا إنها تذكرة﴾ ﴿فمن شاء ذكره﴾ ﴿في صحف مكرمة﴾ ﴿مرفوعة مطهرة﴾ ﴿بأيدي سفرة﴾ ﴿كرام بررة﴾. وقال تعالى: ﴿وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم﴾. فإن كونه مكتوبا في اللوح المحفوظ وفي صحف مطهرة بأيدي الملائكة لا ينافي أن يكون جبريل نزل به من الله سواء كتبه الله قبل أن يرسل به جبريل أو بعد ذلك وإذ كان قد أنزله مكتوبا إلى بيت العزة جملة واحدة في ليلة القدر فقد كتبه كله قبل أن ينزله... " (٢).
فعلى هذا الوجه لا إشكال في القول بأن للقرآن تنزلين: نزول جملة، ونزول مفرق، ولا يترتب عليه محذور. وإنما يقع المحذور ويحصل الإشكال في القول بأن جبريل يأخذ القرآن من الكتاب أو من بيت العزة عند نزوله به على الرسول ﷺ من دون سماع من الله تعالى. كما نقل أبو شامة عن الحكيم الترمذي - في معرض حديثه عن حكمة نزول القرآن جملة - قوله: "ثم أجرى من السماء الدنيا الآية بعد الآية عند نزول النوائب.. " (٣).
وكما قد يفهم من ظاهر بعض الآثار فمثل هذا القول، ومثل هذا الفهم للقول بأن للقرآن تنزلين؛ لا يصح. فهو أولا لم يرد في تلك النصوص المفسرة والمفصلة لنزول القرآن جملة. وثانيا أنه يلزم منه أن جبريل عليه السلام لم يسمع القرآن من الله عز وجل وأن القرآن نزل من مخلوق لا من الله وهذا باطل.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله: "والنبي ﷺ سمعه من جبريل، وهو الذي نزل عليه به، وجبريل سمعه من الله تعالى، كما نص على ذلك أحمد وغيره من الأئمة. قال تعالى: ﴿قل نزله روح القدس من ربك بالحق﴾ فأخبر سبحانه أنه نزله روح القدس وهو الروح الأمين، وهو جبريل من الله بالحق.. " (٤).
وذكر ابن تيمية عن أبي حامد الإسفرائيني قوله: "مذهبي ومذهب الشافعي وفقهاء الأمصار أن القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال: مخلوق فهو كافر، والقرآن حمله جبريل مسموعا من الله، والنبي ﷺ سمعه من جبريل، والصحابة سمعوه من رسول الله ﷺ وهو الذي نتلوه نحن بألسنتنا، وفيما بين الدفتين، وما في صدورنا: مسموعا، ومكتوبا، ومحفوظا.. " (٥).
(٢) الفتاوى لابن تيمية (١٢/ ١٢٦ - )
(٣)؟ المرشد الوجيز (٢٦).
(٤) الفتاوى (١٢/ ٢٩٨) باختصار.
(٥) الفتاوى (١٢/ ٣٠٦).