يطلبونها كنزول القرآن جملة إلا أعطيناك من الأحوال ما يحق لك في حكمتنا وبما هو أبين معنى في إعجازهم وذلك بنزوله مفرقًا (١).
الحكمة الثانية: التدرج في التشريع، وذلك من خلال:
أ- التدرج في انتزاع العادات الضارة، وذلك بالتخلي عنها شيئًا فشيئًا والتدرج في نقل الناس من حياة الفوضى والتفلت إلى حياة النظام والتقييد بالمعايير الإسلامية الصحيحة، فقد بُعث النبي - ﷺ - إليهم وهم يعبدون الأصنام، ويشركون بالله ومع الله، ويسفكون الدماء ويشربون الخمر ويزنون، ويقتلون الأولاد خشية الفقر، ويتعاملون بالربا الفاحش، ويلعبون الميسر، ويستقسمون بالأزلام، وينكحون نساء الآباء ويجمعون بين الأختين ويكرهون الفتيات على البغاء، وذكر العلماء في كتب التاريخ أن الحروب كانت تقع بين القبائل العربية لأوهى الأسباب ومجرد حب الانتقام، حتى أدى هذا إلى قطع حبال المودة بينهم وجعلهم شيعًا متباغضة يتربص كل فريق منهم بغيره الدوائر، واعتادوا على كثير من هذه الأخلاق المنحطة وتغلغلت فيهم حتى صارت جزءًا لا يتجزأ منهم ومن المعلوم أنه يصعب على المرء والمجتمع ترك هذه الأمور مرة واحدة لأن للعقائد حتى ولو كانت باطلة وللعادات ولو كانت مستهجنة سلطانًا على النفوس، والناس أَسْرى ما أَلفوا ونشأوا عليه، فلو أن القرآن نزل جملة واحدة وطالبهم بالتخلي عما هم منغمسون فيه من كفر وجهل وشرك مرة واحدة لما استجاب إليه أحد ولكن القرآن نجح معهم في هدم العادات الباطلة وانتزاعها بالتدريج بسبب نزول القرآن عليهم شيئًا فشيئًا (٢).
وأبلغ دليل على ذلك هو انتزاع الخمر من ذلك المجتمع الذي كان يشربه كالماء، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "حرمت الخمر ثلاث مرات، قدم رسول الله - ﷺ - المدينة وهم يشربون الخمر ويلعبون الميسر، فسألوا رسول الله عنهما فأنزل الله - عز وجل - على نبيه - ﷺ - ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ [البقرة: ٢١٩]، فقال الناس: ما حرم علينا إنما قال فيهما إثم كبير، وكانوا يشربون الخمر حتى إذا كان يوم من الأيام صلى رجل من المهاجرين أمَّ أصحابه في المغرب خَلَط في قراءته فأنزل الله فيها آية أغلظ منها ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ [النساء: ٤٣]، وكان الناس يشربون حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مفيق، ثم أنزلت آية أغلظ من ذلك ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: ٩٠]، فقالوا: انتهينا يا رب، فقال الناس: يا رسول الله ناس قتلوا في سبيل الله أو ماتوا على فرشهم كانوا يشربون الخمر ويلعبون الميسر وقد جعله الله رجسًا ومن عمل الشيطان فأنزل الله ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [المائدة: ٩٣]، فقال النبي - ﷺ - لو حرمت عليهم لتركوها كما تركتم " (٣).
(٢) انظر مناهل العرفان ١ ٥٦، المدخل لدراسة القرآن الكريم ٧٢.
(٣) أخرجه الإمام احمد في المسند، انظر الفتح الرباني، كتاب التفسير، باب قول الله (يسألونك عن الخمر والميسر) ١٨ ٨٥، ٨٦ وإسناده ضعيف، وله شواهد تقويه منها حديث عمر بن الخطاب (اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًّا) فنزلت الآيات الثلاثة بالتدريج، حديث صحيح أخرجه الإمام أحمد في المسند ١٨ ٨٦، وأخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأشربة، باب في تحريم الخمر ٣ ٣٢٥، وأخرجه الترمذي في سننه كتاب التفسير، باب ومن سورة المائدة ٥ ٢٥٣، ٢٥٤، ٢٥٥ وأخرجه الحاكم في المستدرك وقال حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ٢ ٢٧٨.