قَالَ: " إِذًا يَحْطِمَكُمْ النَّاسُ فَيَمْنَعُونَكُمْ النَّوْمَ سَائِرَ اللَّيْلَةِ، حَتَّى إِذَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ - صَلَاةَ الْفَجْرِ آذَنَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَكَانَ إِذَا اسْتَبْشَرَ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةٌ مِنْ الْقَمَرِ " (١).
فهذه الروايات الصحيحة التي هي في البخاري ومسلم من رواية كعب ابن مالك تؤكد نزول هذه الآيات ليلاً بما لا يجعل مجالاً للاختلاف في ذلك، بل نزلت ليلاً في الثلث الأخير كما قال كعب بن مالك: " فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَوْبَتَنَا عَلَى نَبِيِّهِ - ﷺ - حِينَ بَقِيَ الثُّلُثُ الْآخِرُ مِنْ اللَّيْلِ " (٢)
ثالثاً: أول سورة الفتح:
عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ - كَانَ يَسِيرُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسِيرُ مَعَهُ لَيْلًا فَسَأَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنْ شَيْءٍ فَلَمْ يُجِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ -، ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا عُمَرُ نَزَرْتَ رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ - ثَلاثَ مَرَّاتٍ كُلُّ ذَلِكَ لا يُجِيبُكَ، قَالَ عُمَرُ: فَحَرَّكْتُ بَعِيرِي ثُمَّ تَقَدَّمْتُ أَمَامَ الْمُسْلِمِينَ وَخَشِيتُ أَنْ يَنْزِلَ فِيَّ قُرْآنٌ فَمَا نَشِبْتُ أَنْ سَمِعْتُ صَارِخًا يَصْرُخُ بِي، قَالَ: فَقُلْتُ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ فِيَّ قُرْآنٌ وَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ - فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: " لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ ثُمَّ قَرَأَ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا" (٣).
فهذه الرواية الصحيحة تؤكد أنها نزلت ليلاً بعد صلح الحديبية بين مكة والمدينة، كما جاء في الحديث: " لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ ثُمَّ قَرَأَ ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ وليس في ذلك خلاف.
رابعاً: صدر سورة العلق:
لا شك أن الآيات الأولى من القرآن نزلت ليلاً، وقد ثبت أن ابتداء نزول القرآن كان في شهر رمضان ليلاً، قال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥)﴾ [البقرة: ١٨٥] البقرة: ١٨٥)، وقال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣)﴾ [الدخان: ٣]، وقال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣)﴾ [القدر: ١ - ٣]، فبركة تلك الليلة، وشرفها وسمو قدرها؛ لأن الله تعالى جعلها مبدأ الوحي إلى رسوله الكريم.
قال ابن عاشور: " فيجوز أن يراد به القرآنُ كلُّه فيكون فعل: (أنزلنا) مستعملاً في ابتداء الإِنزال لأن الذي أُنزل في تلك الليلة خمس الآيات الأول من سورة العلق ثم فتر الوحي ثم عاد إنزاله منجماً ولم يكمل إنزال القرآن إلا بعد نيف وعشرين سنة، ولكن لما كان جميع
(٢) من حديث طويل أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله تعالى لقد تاب الله على النبي.. ٦/ ٢٠٩، وفي المغازي باب حديث كعب بن مالك، ٥/ ١٣٠ وأخرجه مسلم، كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب، ٤/ ٢١٢٠ رقم ٢٧٦٩.
(٣) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: التفسير، باب: سورة الفتح (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً) ح رقم ٤٨٣٣.