وهذا جهد طيب ومنهج جيد في التحديد إلا أنه يرد عليه ما يأتي (١):
أولا: أن كون ذلك يوم الاثنين لإحدى وعشرين مضت من شهر رمضان ليلا. يجعل تلك الليلة هي ليلة الثلاثاء اثنتين وعشرين فلا تصير بذلك من ليالي الوتر التي تتحرى بها ليلة القدر. (٢).
ثانيا: أن الاستدلال بالآيات الثلاث في سور: البقرة، والدخان، والقدر. على ابتداء النزول ليس صريحا، وقد فسرت بأن المراد بها النزول جملة إلى السماء الدنيا. وهو ما يتفق مع الروايات الأخرى الواردة عن ابن عباس وغيره في ذلك.
ثالثا: أن حمله تلك الآيات على ابتداء النزول يعني أن ليلة القدر صارت معروفة على وجه اليقين لأن معرفة ابتداء نزول القرآن ميسور للصحابة رضي الله عنهم لو تعلق به أمر تعيين ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر. ومعلوم أنها قد أخفيت عينها. فاختلف في تحديدها. وإذا سلم هذا الإيراد كان دليلا على نزول القرآن في غير شهر رمضان. وكان ترجيحا للقول بنزوله في شهر ربيع الأول إلا أن تكون ليلة تسع وعشرين على ما ذكر من الحساب.
وقد رجح ابن حجر كون ابتداء النزول في رمضان فقال: "قلت: ورمضان هو الراجح لما تقدم من أنه الشهر الذي جاء فيه الرسول ﷺ حراء فجاءه الملك وعلى هذا يكون سنه حينئذ أربعين سنة وستة أشهر" (٣).
كما رجح في موضع آخر أنه في آخر شهر رمضان ولم يحدده بتاريخ فقال: ".. فيستفاد من ذلك أن يكون آخر شهر رمضان، وهو قول آخر يضاف لما تقدم ولعله أرجحها" (٤).
وجعل ابن حجر شهر رمضان زمانا لنزول القرآن جملة، ونزوله مفرقا أيضا، فقال عن حديث مدارسة جبريل عليه السلام للرسول ﷺ للقرآن ".. وفيه إشارة إلى أن ابتداء نزول القرآن كان في شهر رمضان لأن نزوله إلى السماء الدنيا جملة واحدة كان في رمضان كما ثبت من حديث ابن عباس" (٥).
وذكر ابن عرفة في تفسيره مثل هذا التوجيه بعد أن ساق بعض الأقوال في معنى قوله تعالى: ﴿أنزل فيه القرآن﴾ قال: "قال الضحاك: أنزل القرآن في فرضه وتعظيمه، والحض عليه. وقيل: الذي أنزل القرآن فيه. قال ابن عرفة: ولا يبعد أن يراد الأمران فيكون أنزل القرآن فيه تعظيما له وتشريفا.. وقيل: أنزل فيه القرآن جملة إلى سماء الدنيا. قال ابن عرفة فالقرآن على هذا الاسم للكل، وعلى القول الثاني: بأنه أنزل فيه بعضه يكون القرآن اسم جنس يصدق على القليل والكثير" (٦).
وإلى مثل ذلك ذهب أبو شامة في تعليقه على ما نسب للشعبي من أن الله عز وجل ابتدأ إنزال القرآن في ليلة القدر فقال: "هو إشارة إلى ابتداء إنزال القرآن على النبي صلى الله عليه
(٢) يصدق تعليله على ما ذكره من موافقة يوم الاثنين لثمان وعشرين من رمضان حيث تكون ليلة تسع وعشرين. وهي من ليالي الوتر، ولكنه لم يذكره ولم يختره.
(٣)؟ فتح الباري، كتاب التعبير: ١٢/ ٣٥٦.
(٤)؟ فتح الباري، كتاب التعبير: ١٢/ ٣٥٧.
(٥)؟ فتح الباري، كتاب بدء الوحي: ١/ ٣١.
(٦) تفسير ابن عرفة برواية تلميذه الأبي: ٢/ ٥٣٩.