وقد ذكر ابن إسحاق في كتاب السيرة أن إسافا ونائلة كانا بشرين، فزنيا داخل الكعبة فمسخا حجرين فنصبتهما قُريش تجاه الكعبة ليعتبر بهما الناس، فلما طال عهدهما عبدا، ثم حولا إلى الصفا والمروة، فنصبا هنالك، فكان من طاف بالصفا والمروة يستلمهما، ولهذا يقول أبو طالب، في قصيدته المشهورة:

وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم بمفضى السيول من إساف ونائل (١)
الثالث: وقال قتادة: "قوله: ﴿إنّ الصفا والمرْوَة من شعائر الله﴾، الآية، فكان حَيٌّ من تهامة في الجاهلية لا يسعون بينهما، فأخبرهم الله أنّ الصفا والمروة من شعائر الله، وكانَ من سُنة إبراهيم وإسماعيلَ الطواف بينهما" (٢).
وروي عن عائشة (٣)، نحو ذلك.
الرابع: وقال مقاتل بن سليمان: " وذلك أن الخمس: وهم قريش، وكنانة، وخزاعة، وعامر بن صعصعة، قالوا: ليست الصفا والمروة من شعائر الله، وكان على الصفا صنم يقال له نائلة، وعلى المروة صنم يقال له يساف في الجاهلية. قالوا، إنه حرج علينا في الطواف بينهما، فكانوا لا يطوفون بينهما فأنزل الله- عز وجل- ﴿إن الصفا والمروة من شعائر الله﴾ " (٤).
الخامس: وقال ابن كثير: "قال آخرون من الأنصار: إنما أمرنا بالطواف بالبيت، ولم نؤمر بالطواف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ (٥).
السادس: قال ابن عباس: " أنه كانَ في الجاهلية شَياطين تعزِفُ الليل أجمعَ بين الصفا والمروة، وكانت بَينهما آلهة، فلما جاء الإسلام وظَهر، قال المسلمون: يا رَسولَ الله، لا نطوف بين الصفا والمروة، فإنه شركٌ كنا نفعله في الجاهلية! فأنزل الله: ﴿فلا جُناح عليه أن يطوَّف بهما﴾ " (٦).
ومن هذا قول الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [المائدة: ٩٣]، فهذا اللفظ الكريم يدل بظاهره على أن للإنسان أن يصلي إلى أي جهة شاء، ولا يجب عليه أن يولي وجهه شطر البيت الحرام لا في سفر ولا في حضر، لكن إذا علم أن هذه الآية نازلة في نافلة السفر خاصة، أو فيمن صلى باجتهاده ثم ظهر له خطأ ذلك (٧) فلا بد أن يقصرها على هذا السبب ويعلم أنه في صلاة الفرض لا بد من التوجه قِبَل الكعبة المشرفة.
(١) السيرة النبوية لابن إسحاق (رقم النص ٤) ط، حميد الله، المغرب.
(٢) أخرجه الطبري (٢٣٤٩): ص ٣/ ٢٣٦، و (٢٣٥٢): ص ٣/ ٢٣٨.
(٣) انظر: تفسير الطبري (٢٣٥٠)، و (٢٣٥١): ص ٣/ ٢٣٦ - ٢٣٧.
(٤) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/ ١٥٢.
(٥) انظر: تفسير ابن كثير: ١/ ٤٧٠.
(٦) أخرجه الطبري (٢٣٤٢): ص ٣/ ٢٣٤، وتفسير القرطبي: ٢/ ١٧٩، وانظر: أسباب النزول للواحدي: ٤٦، حكاه عن السدي.
(٧) الإتقان - السيوطي - ج ١ ص ٢٩، وانظر البرهان - الزركشي - ج ١ ص ٥٢ - ٥٣


الصفحة التالية
Icon