السور للصراخ عليهم بعجزهم عن أن يأتوا بمثله، مع أنه لم يأت إلا من تلك الحروف التي تتكون منها لغتهم التي ملكوا ناصيتها (١).
وقد ذهب بعضهم إلى رد هذا القول، لأن الأمي لا يصعب عليه أن يأتي بمثل هذه الحروف، إذ لا دلالة بها على تعلم الأمي، وانتقاله من الأمية إلى العلم، قال ابن عاشور: "وهذا بين البطلان لأن الأمي لا يتعسر عليه النطق بالحروف" (٢).
الوجه الثاني: واقع هذه الأحرف يقرر هذه القضية، فهي قد ذُكِرَت على خمس صور، فجاءت على حرف واحد مثل: (ص) و (ق)، وجاءت على حرفين مثل: (طس) و (حم)، وجاءت على ثلاثة أحرف مثل: (الم)، وجاءت على أربعة أحرف مثل: (المص)، ثم هي قد جاءت على خمسة أحرف مثل: (كهيعص).
وكذلك كلام العرب لا يخرج عن هذه الأحوال الخمسة، فهو إما حرف أو اسم أو فعل.
فالحرف يأتي على حرفين مثل: (مِنْ)، أو ثلاثة مثل: (على).
والاسم إما ثلاثة أحرف مثل: (حسن) وإما أربعة مثل: (حسين) وإما خمسة مثل: (حسناء)، وما عدى هذا فهو مزيد ليس بأصلي.
وأفعال العرب إما ثلاثة أحرف مثل: (كتب) وإما أربعة مثل: (أكرم)، وما عدى هذا فهو مزيد ليس بأصلي.
فما خرجت الحروف المقطعة في جميع صورها عن استعمالات العرب، وكأن الله يقول: هذه الأحرف كُرِّرت على حسب استعمالاتكم في لغتكم، فإن قلتم: هذه الأحرف قد سبقنا محمد إليها فاستعمل حروفنا؛ قلنا لكم: قد استعملنا نصفها في أوائل السور وتركنا لكم النصف الآخر فافتروا منها قرآناً كما افترى محمد بزعمكم ـ حاشاه ـ (٣).
القول الثاني: أنها أسماء لله تعالى
ذهب بعض العلماء أن هذه الحروف المقطعة التي في أوائل السور أسماء لله تعالى، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا:
ابن عباس (٤) وابن مسعود (٥) وسالم بن عبدالله (٦)، والشعبي (٧)، وروي نحوه عن اسماعيل بن عبدالرحمن السدي الكبير ونحوه عن عكرمة (٨).
قال عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -: فواتح السور أسماء من أسماء الله (٩).
وعن ابن عباس واين مسعود في قوله: " (ألم)، و (المص)، و (الر)، و (المر)، و (كهيعص)، و (طه)، و (طسم)، و (طس)، و (يس)، و (ص)، و (حم)، و (ق)، و (ن)، قال: هو قسم أقسمه الله، وهو من أسماء الله" (١٠).
وعن فاطمة ابنة علي بن أبي طالب، قالت: "كان علي يقول في دعائه: يا كهيعص اغفر لي" (١١).
(٢) التحرير والتنوير: ١/ ٢١٥.
(٣) انظر الكشاف ١/ ٧٢، ومفاتيح الغيب ٢/ ٢٥٧ وأنوار التنزيل ١/ ٨٦.
(٤) عزاه إليه القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ١/ ١٥٥ (والطبري في جامع البيان (١: ٦٧. (
(٥) عزاه إليه النسفي في تفسير النسفي (١: ٣٩)، وابن مسعود هو عبد االله بن مسعود بن غافل كان إسلامه قديما في أول الإسلام مات بالمدينة سنة ٣٢ هـ ودفن بالبقيع، أنظر ابن عبد البر، أبا عمر يوسف بن عبد االله بن محمد، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ٤ مج، تحقيق الشيخ علي محمد معوض، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان (ط ١/ ١٤١٥ هـ – ١٩٩٥ م) (٣/ ١١٠ - ١١٦ (.
(٦) عزاه إليه ابن كثير في تفسير القرآن العظيم (١: ٣٦ (وسالم هو سالم بن عبد االله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي أحد فقهاء المدينة السبعة ومن سادات التابعين وعلمائهم وثقاتهم توفي في المدينة سنة ١٠٦ هـ أنظر: تاريخ الأعلام، الزركلي: ٣/ ٧١.
(٧) عزاه إليه الطبري في جامع البيان: ١/ ٦٧.
(٨) انظر المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لعبدالحق بن غالب بن عطية الأندلسي ٤/ ٣، ط دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ، الأولى ١٤١٣ هـ ١٩٩٣ م، بتحقيق/عبدالسلام عبدالشافي محمد، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي ١١/ ٧٣، وفتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير لمحمد بن علي بن محمد الشوكاني ٢/ ٤٢٤، ط دار الفكر ـ بيروت ـ.
(٩) ذكره السيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور ٤/ ٣٣٩، ط دار الفكر ـ بيروت ـ ١٩٩٣ م، وعزاه لابن مردويه، وانظر فتح القدير للشوكاني ٢/ ٤٢٤.
(١٠) أخرجه ابن جرير الطبري في التفسير ١/ ٦٧، وعبدالرحمن بن محمد بن إدريس بن أبي حاتم الرازي في تفسير القرآن العظيم ١/ ٣٢، ط المكتبة العصرية ـ صيدا ـ، بتحقيق/أسعد محمد الطيب، وانظر الدر المنثور ١/ ٥٤.
(١١) أخرجه ابن جرير الطبري ١٦/ ٣٤، وانظر تفسير ابن عطية ٤/ ٣، وابن الجوزي ٥/ ٢٠٥، والقرطبي ١١/ ٧٣، وفتح الباري ٨/ ٤٢٧.