أولاً: لو كانت هذه الألفاظ أسماءً للسور لوجب أن يعلم ذلك بالتواتر، لأن هذه الأسماء ليست على قوانين أسماء العرب، والأمور العجيبة تتوافر الدواعي على نقلها لا سيما فيما لا يتعلق بإخفائه رغبة أو رهبة، ولو توفرت الدواعي على نقلها لصار ذلك معلوماً بالتواتر، وارتفع الخلاف فيه فلما لم يكن الأمر كذلك علمنا أنها ليست من أسماء السور (١).
ثانياً: ويرده اتحاد هذه الحروف في عدة سور مثل (الم) و (الر) و (حم) والمقصود ممن الاسم إزالة الاشتباه، والاشتباه حاصل.
ثالثاً: ويرده اشتهار السور بأسماء أخرى غير هذه الحروف، كسورة البقرة وسورة ال عمران وسورة الأعراف وسورة مريم وما إليها، ولو كانت أسماءً لاشتهرت بها.
قلت: أن هذه الحروف لا تعد أسماءً للسور وذلك لأن أسماء السور توفيقية (٢)، ولا يجوز أن يطلق اسم على مسمى من غير أن يعرف المسمى به، وأما ما ورد في الحديث الشريف فإن جاز عدها اسماً للسورة فتكون أسماءً للسور التي نصت الروايات عليها دون غيرها.
القول الخامس: أن هذه الفواتح أسماء للقرآن الكريم (٣)
قال ابن كثير: " ولعل هذا يرجع إلى معنى قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه اسم، من أسماء السور، فإن كل سورة يُطْلَق عليها اسم القرآن، فإنه يبعد أن يكون: ﴿المص﴾ اسماً للقرآن كله، لأن المتبادر إلى فهم سامع من يقول: قرأت ﴿المص﴾ إنما ذلك عبارة عن سورة الأعراف، لا لمجموع القرآن، والله أعلم (٤) ": اهـ
وحمل ابن جرير الطبري هذا القول على ظاهره فقال: "هي أسماء لكل القرآن، لا للسورة التي هي قطعة من القرآن، فـ ﴿{الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ١، ٢] على معنى القسم، كأنه قال: والقرآن هذا الكتاب لا ريب فيه" (٥).
القول السادس: أنها نزلت ليستغربها المشركون فيسمعون القرآن
ذهب بعض العلماء إلى أن الحروف المقطعة نزلت لاستدراج نفوس المشركين ليستغربوها فيفتحوا لها أسماعهم فيسمعوا القرآن بعدها فتجب عليهم الحجة، أي: أنها حروف لا معنى لها في الوضع، قُدِّمت على الكلام المقصود لحكمة تفريغ البال، ولفت الانتباه، وجذب الأذهان للإصغاء والسماع، ليحصل التدبر والفهم والاتعاظ بما بعد ذلك (٦).
ممن قال بذلك: الرازي (٧) والزرقاني (٨).
وهذا التنبيه يكون للنبي - صلى الله عليه وسلم-، وللمؤمنين، وللمشركين:
أما للنبي - صلى الله عليه وسلم-: "فكان من الجائز أن يكون الله قد علم في بعض الأوقات كونه - صلى الله عليه وسلم- في عالم البشر مشغولاً، فأمر جبريل بأن يقول عند نزوله: (الم) و (الر) و (حم)، ليسمع النبي صوت جبريل فيقبل عليه ويصغي إليه.
وإنما لم تُسْتَعْمَل الكلمات المشهورة في التنبيه كـ (ألا) و (أما) لأنها من الألفاظ التي يتعارفها الناس في كلامهم، والقرآن كلام لا يشبه الكلام، فناسب أن يُؤْتَى فيه بألفاظ تنبيه لم تُعْهَد لتكون أبلغ في قرع سمعه (٩) ":
وهي تنبيه للمؤمنين أيضاً لئلا يستمعوا هذا القرآن وهم في غفلة ولهو.
أما المشركون فقد حكى الله تعالى تنفير بعضهم لبعض عن القرآن في قوله: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ [فصلت: ٢٦]، فكان إذا تكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم-

(١) انظر: التحرير والتنوير: ١/ ٢١٠.
(٢) انظر: الإتقان: ١/ ٧٥.
(٣) انظر جامع البيان ١/ ٦٩، والبحر المحيط ١/ ١٥٦.
(٤) تفسير القرآن العظيم لابن كثير ١/ ٣٧.
(٥) جامع البيان ١/ ٦٩.
(٦) انظر جامع البيان ١/ ٦٩، والمحرر الوجيز ١/ ٨٢، والبحر المحيط ١/ ١٥٧.
(٧) ينظر: التفسير الكبير: ٢/ ٨.
(٨) ينظر: مناهل العرفان: ١/ ٢٣٠.
(٩) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ٣/ ٢٧.


الصفحة التالية
Icon