وقال ابن كثير مبيناً بطلان هذا القول: "وهو ضعيف، لأنه لو كان كذلك لكان ذلك في جميع السور، لا يكون في بعضها، بل غالبها ليس كذلك، ولو كان كذلك ـ أيضاً ـ لانبغى الابتداء بها في أوائل الكلام معهم، سواء كان افتتاح سورة أو غير ذلك، ثم إن هذين ـ يعني سورة البقرة وآل عمران ـ مدنيتان ليستا خطاباً للمشركين، فانتقض ما ذكروه بهذه الوجوه" (١) (٢).
القول السابع: ـ هذه الحروف أسماء، مسمياتها الحروف المبسوطة التي رُكِّبَت منها الكلمات، فقولك: (ضاد) اسم سُمِّي به الحرف (ضه) من كلمة (ضرب) إذا تهجيته، وكذلك (راء) و (باء) أسمان لقولك: (ره) و (به) (٣).
قال الخليل يوماً وسأل أصحابه: كيف تقولون إذا أردتم أن تلفظوا بالكاف التي في (لك) والباء التي في (ضرب)؟ فقيل: نقول: باء، كاف. فقال: إنما جئتم بالاسم ولم تلفظوا بالحرف، وقال: أقول: (كه) (به) (٤).
فإن قيل: وما الفائدة التي تترتب على ذلك؟
فالجواب: أن في ذلك فائدة عظيمة: " فالتكلم بهذه الحروف ـ وإن كان معتاداً لكل أحد إلا أن كونها مسماة بهذه الأسماء لا يعرفه إلا من اشتغل بالتعلم والاستفادة، فلما أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم- عنها من غير سبق تعلم واستفادة كان ذلك إخباراً عن الغيب، فلهذا السبب قَدَّم الله ـ تعالى ـ ذكرها ليكون أول ما يُسْمَع من هذه السورة معجزة دالة على صدقه - صلى الله عليه وسلم- (٥) ":
ويدخل في هذا القول ما رُوِي عن عكرمة أن هذه الحروف قسم (٦).
أي أن الله تعالى أقسم بالحروف المعجمة لشرفها وفضلها، ولأنها مباني كتبه المنزلة بالألسنة المختلفة، ومباني أسماء الله الحسنى وصفاته العليا، وأصول كلام الأمم، بها يتعارفون ويذكرون الله ويوحدونه.
ثم إنه تعالى اقتصر على ذكر البعض وإن كان المراد هو الكل كما تقول: قرأت ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: ٢]. وتريد السورة كلها، فكأنه ـ تعالى ـ قال: أقسم بهذه الحروف، إن هذا الكتاب هو ذلك الكتاب المثبت في اللوح المحفوظ (٧).
القول الثامن: أن هذه الحروف أمارة قد كان الله تعالى جعلها لأهل الكتاب أنه سينزل على محمد - صلى الله عليه وسلم- كتاباً في أول سور منه حروف مقطعة (٨).
قلت: وكل هذه الأقوال فيها وجه من الوجاهة والقبول ـ على تفاوت في ذلك ـ، وليس فيها محذور أو محظور يتعارض مع النقل الصريح أو العقل الصحيح، فلو قُبِلَت كلها لم يزد بعضها بعضاً إلا قوة ورجاحة.
قال أبو جعفر ابن جرير الطبري: "ولكل قول من الأقوال التي قالها الذين وصفنا قولهم في ذلك وجه معروف" (٩).

(١) تفسير القرآن العظيم لابن كثير ١/ ٣٨ و ٣٩.
(٢) كما وأن وجوه هذا التضعيف فيها نظر:
أما قوله: ينبغي ذكرها في جميع السور، فليس بلازم لأن هذه الأحرف لا يقتصر معناها ولا الحكمة منها على ما ذُكِر في هذا القول فقط، بل هو معنى من معانيها إلى جانب معان أخر.
وأما قوله: ينبغي الابتداء بها في أوائل الكلام معهم، سواء كان افتتاح سورة أو غير ذلك، فليس بلازم ـ أيضاً ـ لأن التنبيه قد حصل في أول السورة وحصل المقصود. هذا فضلاً عن أن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان إذا خاطبهم بالقرآن كانوا يعرضون، أما إذا خاطبهم هو فليس الأمر كذلك.
واعتراضه المتعلق بذكرها في البقرة وآل عمران المدنيتين فالجواب أن هذا التنبيه ليس للمشركين فقط، بل هو لهم ولغيرهم كما سبق تقريره آنفاً.
(٣) انظر الكشاف ١/ ٦٣، وأنوار التنزيل للبيضاوي ١/ ٨٥.
(٤) انظر الكشاف ١/ ٦٤.
(٥) مفاتيح الغيب ٢/ ٢٥٤، وانظر أنوار التنزيل ١/ ٨٥، وإرشاد العقل السليم ١/ ٢٢.
(٦) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره ١/ ٣٣، والنحاس في معاني القرآن ١/ ٧٥.
(٧) انظر تفسير السمعاني ١/ ٤١، والبغوي ١/ ٤٤، والرازي ٢/ ٢٥٤، وأبي حيان ١/ ١٥٦، وأبي السعود ١/ ٢١.
(٨) انظر المحرر الوجيز ١/ ٨٢، والبحر المحيط ١/ ١٥٧، والإتقان ٣/ ٢٨.
(٩) جامع البيان ١/ ٦٩.


الصفحة التالية
Icon