ذهب بعض العلماء إلى أن هذه الحروف تدل على انقطاع كلام واستئناف كلام آخر، ومعنى ذلك أنه افتتح بها ليعلم أن السورة التي قبلها قد انقضت وأنه قد أخذ في أخرى، فجعل هذا علامة انقطاع ما بينهما.
من الذين قالوا بذلك: مجاهد (١) وأبو عبيدة (٢) والأخفش (٣).
وهذا الكلام ليس بشيء، فلا تُعد هذه الحروف دالة على انقطاع كلام واستئناف كلام آخر، فإن هذه الحروف لم تعهد مزيدة لهذه الدلالة، فقد صح الفصل بغيرها، ثم إن هذا غير مضطرد في جميع السور، فلماذا ذكرت هذه الحروف في سور ولم تذكر في أخرى. قال ابن كثير مبيناً بطلان هذا القول: "وهذا ضعيف لأن الفصل حاصل بدونها فيما لم تذكر فيه، وفيما ذكرت فيه البسملة تلاوة وكتابة" (٤).
القول الثاني عشر: أن هذه الحروف جاءت للدلالة على مدة بقاء هذه الأمة، وذلك بحساب الجمل ـ بضم الجيم وفتح الميم المشددة ـ ويُعْرَف بحساب (أبي جاد) (٥).
وقد ورد في ذلك حديث ضعيف، وهو مع ذلك أدل على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته، وهو عن عبدالله بن عباس عن جابر بن عبد الله أنه قال: "مر أبو ياسر بن أخطب برسول الله وهو يتلو فاتحة سورة البقرة: ﴿الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة: ١، ٢]، فأتى أخاه حُيَيّ بن أخطب في رجال من يهود، فقال: تعلمون والله لقد سمعت محمداً يتلو فيما أنزل الله ـ عز وجل ـ عليه: ﴿الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ [البقرة: ١، ٢]. فقالوا: أنت سمعته؟ قال: نعم.
فمشى حيي بن أخطب في أولئك النفر من يهود إلى رسول الله، فقالوا: يا محمد، ألم يُذْكَر لنا أنك تتلو فيما أنزل عليك: ﴿الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ [البقرة: ١، ٢]؟ فقال رسول الله: بلى. فقالوا: أجاءك بهذا جبريل من عند الله؟ قال: نعم. قالوا: لقد بعث الله ـ جل ثناؤه ـ قبلك أنبياء ما نعلمه بين لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك. فقال حيي بن أخطب ـ وأقبل على من كان معه فقال لهم ـ: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة. قال: فقال لهم: أتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة؟ ! قال: ثم أقبل على رسول الله فقال: يا محمد، هل مع هذا غيره؟ قال: نعم. قال: ماذا؟ قال: ﴿المص﴾ قال: هذه أثقل وأطول، الألف واحدة، وللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد تسعون، فهذه مائة وإحدى وستون سنة، هل مع هذا يا محمد غيره؟ قال: نعم، قال: ماذا؟ قال: ﴿الر﴾، قال: هذه أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مائتان، فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة، فقال: هل مع هذا غيره يا محمد؟ قال: نعم ﴿الر﴾، قال: فهذه أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مائتان، فهذه إحدى وسبعون ومائتا سنة.
ثم قال: لقد لُبِّس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندري أقليلاً أُعْطِيت أم كثيراً. ثم قاموا عنه، فقال أبو ياسر لأخيه حيي بن أخطب ولمن معه من الأحبار: ما يدريكم لعله قد جُمِع هذا كله لمحمد، إحدى وسبعون، وإحدى وستون ومائة، ومائتان وإحدى وثلاثون، ومائتان وإحدى وسبعون، فذلك سبعمائة سنة وأربع وثلاثون. فقالوا: لقد تشابه علينا أمره" (٦).

(١) عزاه إليه الطبري في جامع البيان (١: ٦٧) وهو مجاهد بن جبير أبو الحجاج المكي مولى بني مخزوم تابعي مفسر من أهل مكة، شيخ القراء والمفسرين، أخذ التفسير عن ابن عباس ولد سنة ٢١ هـ وتوفي سنة ١٠٤ هـ أنظر الزركلي، الأعلام:. (٢٧٨: ٥)
(٢) انظر: مجاز القرآن، أبو عبيدة، معمر بن مثنى التيمي، ، ٢ مج، مؤسسة الرسالة، بيروت (ط ٢/ ١٤٠١ هـ-١٩٨١ م): ١/ ٢٨١.
(٣) انظر: معاني القرآن: ١/ ٢١.
(٤) تفسير ابن كثير: ١/ ٣٧.
(٥) انظر تفسير الطبري ١/ ٦٨، والرازي ٢/ ٢٥٣، والتسهيل لعلوم التنزيل لمحمد بن أحمد بن محمد بن جُزَيّ الغرناطي الكلبي ١/ ٣٥، ط دار الكتاب العربي ـ لبنان ـ، الرابعة ١٤٠٣ هـ ١٩٨٣ م، والبحر المحيط ١/ ١٥٦، والإتقان ٣/ ٢٦.
(٦) هذا حديث باطل أخرجه البخاري في التاريخ الكبير ٢/ ٢٠٨، وأبو عمرو الداني في كتاب البيان في عد آي القرآن ص ٣٣٠، وابن جرير الطبري في تفسيره ١/ ٧١ و ٧٢، كلهم من طريق محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن جابر.....
ومحمد بن السائب الكلبي متروك ومتهم بالكذب، كما في كتاب الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي ٦/ ١١٤، والضعفاء والمتروكين للنسائي ص ٩١، والتقريب لابن حجر ص ٤٧٩.
وأبو صالح هو باذام مولى أم هانئ، وهو ضعيف جداً، ويُرْسِل، كما في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم ٢/ ٦٣١، والتاريخ الكبير للبخاري ٢/ ١٤٤، والتقريب ص ١١٠. قال سفيان: قال لي الكلبي: قال لي أبو صالح: كل ما حدثتك به كذب. انظر سنن البيهقي الكبرى ٨/ ١٢٣، والكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص ١١٧.
وللحديث طريق أخرى في تاريخ البخاري الكبير ٢/ ٢٠٨ من طريق زياد بن عبد الله البكائي، وهو متروك الحديث كما في تهذيب الكمال ٩/ ٤٨٥، ولسان الميزان ٧/ ٥٠٥.


الصفحة التالية
Icon