والبشارة بمحمد ﷺ وآمَنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، بعد بعثته، والتزموا شريعته- ظاهرين على الذين جحدوا نبوتك إلى يوم القيامة، ثم إليّ مصيركم جميعًا يوم الحساب، فأفصِل بينكم فيما كنتم فيه تختلفون من أمر عيسى عليه السلام.
قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ [آل عمران: ٥٥]، أي: " إني قابضك من الأرض ورافعك إليّ" (١).
قال الحسن: " رفعه إليه وهو عنده في السماء" (٢).
وقد اختلف المفسرون في معنى "التوفي" في قوله: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ [آل عمران: ٥٥]، على أقوال:
أحدها: أن معناه: إني قابضك برفعك إلى السماء من غير وفاة بموت، وهذا قول الحسن (٣)، وابن جريج (٤)، وابن زيد (٥)، والكلبي (٦)، ومطر الورّاق (٧)، ومحمد بن جعفر بن الزبير (٨).
قال الثعلبي: " يدل عليه قوله فلما ﴿تَوَفَّيْتَنِي﴾ [المائدة: ١١٧]، أي: قبضتني إلى السماء وأنا حي، لأن قومه إنما تنصروا بعد رفعه لا بعد موته. وعلى هذا القول للتوفي تأويلان:
أحدهما: إني رافعك إلي وافيا لن ينالوا منك. من قولهم: توفيت كذا واستوفيته أي أخذته تاما (٩).
والآخر: إني مسلمك، من قولهم: توفيت منه كذا أي سلمته" (١٠).
والثاني: متوفيك وفاة نوم للرفع إلى السماء، وهذا قول الربيع (١١).
والمعنى: " ورافعك وأنت نائم، حتى لا يلحقك خوف، وتستيقظ وأنت في السماء آمن مقرب" (١٢).
ورجّحه ابن كثير، فقال: " وقال الأكثرون: المراد بالوفاة هاهنا: النوم، كما قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ﴾ [الأنعام: ٦٠] وقال تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الزمر: ٤٢] وكان رسول الله ﷺ يقول - إذا قام من النوم -: "الْحَمْدُ لله الَّذِي أحْيَانَا بَعْدَمَا أمَاتَنَا وإلَيْهِ النُّشُورُ" (١٣)، وقال الله تعالى: ﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا. وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا. بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا. وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ [النساء: ١٥٦ - ١٥٩] والضمير في قوله: ﴿قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ عائد على عيسى، عليه السلام، أي: وإن من أهل الكتاب إلا يؤمن بعيسى قبل موت عيسى، وذلك حين ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة، على ما سيأتي بيانه، فحينئذ يؤمن به أهل الكتاب كلّهم؛ لأنه يضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام" (١٤).
قال الثعلبي: " يدل عليه قوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ﴾ [الأنعام: ٦٠]، أي: ينيمكم، لأن النوم أخو الموت، وقوله الله: ﴿يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾ [الزمر: ٤٢] " (١٥).
والثالث: متوفيك وفاة بموت، وهذا قول ابن عباس (١٦)، ووهب بن منبه (١٧)، وضعّفه الطبري (١٨)، والواحدي (١٩).
ومعنى الآية على هذا الوجه: " قال الله لعيسى: إني متوفيك حين يأتي أجلك. ولن أسلطهم عليك ليقتلوك. وقد حقق الله وعده إذ ألقى شبهه على يهوذا فقتلوه، وأنجى عيسى ورفعه إليه. وسيبقى إلى آخر الزمان ليبلغ شريعة محمد - ﷺ - للناس. ثم يتوفاه بعد ذلك... فالآية على هذا كناية عن عصمته من الأعداء، مشفوعة بالبشارة برفعته" (٢٠).
قال الثعلبي: " يدل عليه: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ﴾ [السجدة: ١١]، وقوله: ﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ﴾ [يونس: ٤٦]، وله على هذا القول تأويلان:
أحدهما: ما قال وهب: «توفى الله عيسى ثلاث ساعات من النهار ثم أحياه ورفعه» (٢١) (٢٢).
والآخر: ما قاله الضحاك وجماعة من أهل المعاني: إن في الكلام تقديما وتأخيرا، معناه إني رافعك إلي... ومطهرك من الذين كفروا: ومتوفيك بعد إنزالك من السماء كقوله عز وجل: ﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى﴾ [طه: ١٢٩].
وقال الشاعر (٢٣):
ألا يا نخلة من ذات عرق... عليك ورحمة الله السلام
أي عليك السلام ورحمة الله.
وقال آخر (٢٤):
جمعت وعيبا نخوة ونميمة... ثلاث خصال لسن من ترعوي
أي جمعت نخوة ونميمة وعيبا.
وروى أبو هريرة عن النبي ﷺ قال: «الأنبياء إخوة لعلات شتى ودينهم واحد، وأنا أولى الناس بعيسى بن مريم لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، وإنه عامل على أمتي وخليفتي عليهم، إذا رأيتموه فاعرفوه

(١) تفسير الطبري: ٦/ ٤٥٨، وانظر: تفسير الطبري (٧١٤٤) -٧١٤٥): ص ٦/ ٤٥٨ - ٤٥٩.
(٢) أخرجه ابن أبي حاتم (٣٥٨٤): ص ٢/ ٦٦١.
(٣) انظر: تفسير الطبري (٧١٣٥): ص ٦/ ٤٥٦، و (٧١٤٠): ص ٦/ ٤٥٧.
(٤) انظر: تفسير الطبري (٧١٣٦): ص ٦/ ٤٥٧.
(٥) انظر: تفسير الطبري (٧١٣٩): ص ٦/ ٤٥٧.
(٦) انظر: تفسير الثعلبي: ٣/ ٨١.
(٧) انظر: تفسير الطبري (٧١٣٤): ص ٦/ ٤٥٦، وتفسير الثعلبي: ٣/ ٨١.
(٨) انظر: تفسير الطبري (٧١٣٩): ص ٦/ ٤٥٧، وتفسير الثعلبي: ٣/ ٨١.
(٩) نقل ابن الجوزي عن ابن قتيبة: " التوفي، من استيفاء العدد يقال:
توفيت، واستوفيت، كما يقال: تيقنت الخبر، واستيقنته، ثم قيل للموت: وفاة، وتوف. وأنشد أبو عبيدة:
إن بني الأدرد ليسوا من أحد... ليسوا إلى قيس وليسوا من أسد
ولا توفاهم قريش في العدد أي: لا تجعلهم وفاء لعددها، والوفاء: التمام" [زاد المسير: ١/ ٢٨٧، الرجز لمنظور الوبري. انظر «اللسان»
مادة (وفي)].
(١٠) تفسير الثعلبي: ٣/ ٨١.
(١١) انظر: تفسير الطبري (٧١٣٣): ص ٦/ ٤٥٥.
(١٢) البحر المحيط: ٣/ ١٧٦.
(١٣) أخرجه الإِمام البخاري في الدعوات، باب ما يقول إذا نام، رقم ٦٣١٢، وفي باب ما يقول إذا أصبح، رقم ٦٣٢٤، وابن أبي شيبة في المصنف [٩/ ٧١، ١٠/ ٢٤٧]، والإِمام أحمد في المسند [٥/ ٣٨٥، ٣٩٧، ٣٩٩، ٤٠٧]، والبخاري في الأدب المفرد برقم ١٢٠٥، وأبو داود في الأدب، باب ما يقال عند النوم، رقم ٥٠٤٩، والنسائي في اليوم والليلة برقم ٧٤٧، ٨٥٦، ٨٥٧، وابن ماجه في الدعاء، باب ما يدعو إذا انتبه من الليل، رقم ٣٨٨٠.
وأخرجه الإِمام البخاري في الدعوات، باب وضع اليد اليمنى تحت الخد، رقم ٦٣١٤، وفي التوحيد، باب السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها، رقم ٧٣٩٤، والترمذي في الدعوات باب ما يدعو به عند النوم، رقم ٣٤١٧، وفي الشمائل برقم ٢٥٣، من طرق عن عبد الملك بن عمير به.
وأخرجه النسائي في اليوم والليلة برقم ٧٤٩، ٧٥٠، ٨٦٠.
(١٤) انظر: تفسير ابن كثير: ٢/ ٤٧.
(١٥) تفسير الثعلبي: ٣/ ٨١.
(١٦) انظر: تفسير الطبري (٧١٤١): ص ٦/ ٤٥٧، وتفسير ابن أبي حاتم (٣٥٨٠): ص ٢/ ٦٦١، اسنادهما حسن.
(١٧) انظر: تفسير الطبري (٧١٤٢): ص ٦/ ٤٥٧.
(١٨) انظر: تفسير الطبري: ٦/ ٤٦٠، إذ يقول: " ومعلوم أنه لو كان قد أماته الله عز وجل، لم يكن بالذي يميته مِيتةً أخرى، فيجمع عليه ميتتين، لأن الله عز وجل إنما أخبر عباده أنه يخلقهم ثم يُميتهم ثم يُحييهم، كما قال جلّ ثناؤه: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ [سورة الروم: ٤٠] ".
(١٩) انظر: التفسير البسيط: ١/ ٥٧٨، إذ قال: " ولكن هذا النقل معارض بما سنذكره من الأحاديث الدالة على بقائه إلى آخر الزمان، وبقوله تعالى: ﴿وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ [النساء: ١٥٩]، وهذا الوعد لم يتحقق إلى الآن، فإن اليهود - وأكثر الناس - لم يؤمنوا به. وذلك يدل على أنه لا يزال حيًا. وسيظل كذلك. حتى يؤمن به جميع الناس قبل موته، تحقيقًا لوعد الله تعالى. وسيكون ذلك آخر الزمان.
كما أنه معارض بما صح نقله عن ابن عباس من أنه رفع من غير وفاة، وعلى هذا يكون قوله تعالى: ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ مرادا منه: رافعك حيًّا بدون وفاة يشهد له نزوله آخر الزمان".
(٢٠) التفسير البسيط: ١/ ٥٧٨.
(٢١) أخرجه الطبري (٧١٤٢): ص ٦/ ٤٥٧. بتفاوت: " توفى الله عيسى ابن مريم ثلاثَ ساعات من النهار حتى رفعه إليه".
(٢٢) أو سبع ساعات، كما رواه الطبري عن ابن إسحاق: " والنصارى يزعمون أنه توفاه سبع ساعات من النهار، ثم أحياهُ الله". أخرجه الطبري (٧١٤٣): ٦/ ٤٥٨. قال البيضاوي: " وقيل أماته الله سبع ساعات ثم رفعه إلى السماء وإليه ذهبت النصارى". [تفسير البيضاوي: ٢/ ١٩].
(٢٣) لم أتعرف على قائله، وانظر البيت في تفسير الثعلبي: ٣/ ٨١، ومعاني القرآن للنحاس: ١/ ٤٠٠، تفسير القرطبي: ٤/ ١٠٠.
(٢٤) لم أتعرف على قائله، وانظر البيت في تفسير الثعلبي: ٣/ ٨٢.


الصفحة التالية
Icon