والرابع: أخرج الطبري عن الضحاك: " لما نزلت آية الحج، جَمع رسول الله ﷺ أهلَ الأديان كلَّهم فقال: يا أيها الناس، إن الله عز وجل كتب عليكم الحج فحجُّوا، فآمنتْ به ملة واحدة، وهي من صدّق النبيّ صلى الله عليه وسلم، وآمن به، وكفرَتْ به خمس ملل، قالوا: لا نؤمن به، ولا نصلي إليه، ولا نستقبله. فأنزل الله عز وجل: ﴿ومن كفر فإنّ الله غني عن العالمين﴾ " (١).
قوله تعالى: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ [آل عمران: ٩٧]، أي: " في المسجد الحرام دلائل واضحات منها: مقام إبراهيم" (٢).
قال ابن كثير: " أي: دلالات ظاهرة أنه من بناء إبراهيم، وأن الله تعالى عَظَّمه وشرفه، قوله تعالى: ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾، يعني: الذي لَمَّا ارتفع البناء استعان به على رفع القواعد منه والجدران، حيث كان يقف عليه ويناوله ولده إسماعيل، وقد كان ملتصقا بجدار البيت، حتى أخّره عُمَر بن الخطاب، رضي الله عنه، في إمارته إلى ناحية الشرق بحيث يتمكن الطُّوَّاف، ولا يُشَوِّشون على المصلين عنده بعد الطواف؛ لأن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة عنده حيث قال: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: ١٢٥] "" (٣).
قال الماوردي: " الآية في مقام إبراهيم أثر قدميه وهو حجر صلد؟ والآية في غير المقام: أمن الخائف، وهيبة البيت وامتناعه من العلو عليه، وتعجيل العقوبة لمن عتا فيه، وما كان في الجاهلية من أصحاب الفيل " (٤).
وقرأ ابن عباس: " ﴿فِيهِ آيَةٌ بَيِّنَةٌ﴾، يعني بها: مقام إبراهيم، يراد بها: علامة واحدةٌ" (٥).
واختلف في تفسير قوله تعالى: ﴿مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ﴾ [آل عمران: ٩٧]، على أقوال:
أحدها: أن ﴿مقام إبراهيم﴾، هو الحج كله. وهو قول ابن عباس (٦)، ومجاهد (٧)، وعطاء (٨)، والشعبي (٩).
الثاني: أنه عرفة والمزدلفة والجمار. وهو قول عطاء بن أبي رياح (١٠)، وروي عن ابن عباس (١١)، مجاهد (١٢)، والشعبي (١٣)، نحو ذلك.
الثالث: أنه الحرم كله (١٤). وهو قول مجاهد (١٥)، والنخعي (١٦)، وكذا رواه الكلبي عن أبي صالح (١٧) عن ابن عباس (١٨).
(٢) أيسر التفاسير: ١/ ٣٤٩.
(٣) تفسير ابن كثير: ٢/ ٧٩.
(٤) النكت والعيون: ١/ ٤١١.
(٥) تفسير الطبري ٧/ ٢٦.
(٦) انظر: تفسير الطبري (١٩٩٠): ص ٢/ ٣٣.
(٧) انظر: تفسير الطبري (١٩٩١): ص ٢/ ٣٣.
(٨) انظر: تفسير الطبري (١٩٩٢): ص ٢/ ٣٣.
(٩) انظر: العيون للماوردي: ١/ ١٨٧.
(١٠) انظر: تفسير الطبري (١٩٩٣): ص ٢/ ٣٣.
(١١) انظر: تفسير الطبري (١٩٩٥): ص ٢/ ٣٣.
(١٢) انظر: تفسير الطبري (١٩٩٤): ص ٢/ ٣٣.
(١٣) انظر: تفسير الطبري (١٩٩٦): ص ٢/ ٣٣.
(١٤) الكشف والبيان للثعلبي: ١/ ١٤٨ ب، البسيط للواحدي: ١/ ٨٦ أ، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: ٢/ ١١٣، البحر المحيط لأبي حيان: ١/ ٣٨١.
(١٥) انظر: تفسير الطبري (١٩٩٨): ص ٢/ ٣٤.
(١٦) هو: أبو عمران إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي، ثقة فقيه، ورع عابد، كان يرسل ويدلس، توفي عام: ٩٦ هـ. انظر: تهذيب الكمال للمزي: ٢/ ٢٣٣، المراسيل لابن أبي حاتم: ٨، جامع التحصيل للعلائي: ١٦٨، تهذيب التهذيب لابن حجر: ١/ ١٧٧.
(١٧) هو: أبو صالح باذان، ويقال: باذام مولئ أم هانئ، تابعي صاحب تفسير، متكلم فيه: وثقه العجلي، وقال ابن معين: لا بأس به، وأبى رد حديثه يحمى القطان، وروى عنه شعبة وروايته عنه تعديل كما يقول ابن تيمية. وترك حديثه ابن مهدي والجوزجاني وأبو حاتم والنسائي، واتهمه الأزدي بالكذب، وقال الحافظ: ضعيف يدلس. انظر: الضعفاء للنسائي: ٢٣، الضعفاء للبخاري: ٢٣، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: ١/ ٤٣٧، مجموع الفتاوى لابن تيمية: ٢٤/ ٣٥٠، تهذيب الكمال للمزي: ٤/ ٦، تهذيب التهذيب لابن حجر: ١/ ٤١٦.
(١٨) لم أهتدِ إلى من ذكر قول ابن عباس هذا من طريق الكلبي عن أبي صالح. وقد عزاه لابن عباس القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ٢/ ١١٣، وابن الجوزي في زاد المسير: ١/ ٢٤١، والكوكباني في تفسير المنان: ٢/ ١٢٩٢، وأورده السيوطي في الدر المنثور: ١/ ٢٢٣ عن ابن عباس، وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم، لكن الذي عند ابن أبي حاتم في التفسير: ١/ ٣٧١ رقم: ١٢٠٧ عن مجاهد عن ابن عباس، وهو الذي أورده ابن كثير في التفسير: ١/ ٢١١، والعيني في عمدة القاري: ٩/ ٢١٢.