يعذبكم عذابا أليما} (١)، ثم نسخ هذه الآيات، فقال: ﴿وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة﴾ (٢) الآية" (٣).
قال ابن الجوزي: " وهذه الرواية فيها مغمز (٤)، وهذا المذهب لا يعمل عليه. وأحوال المجاهدين تختلف، والأمر في ذلك على حسب ما يراه الإمام وليس في هذه الآيات شيء منسوخ بل كلها محكمات. وقد ذهب إلى ما قد ذهبت إليه، أبو سليمان الدمشقي" (٥).
الفوائد:
١ - أن التوكل على الله تعالى لا ينافي اتخاذ الأسباب بل إن التوكل لا يتم إلا إذا اتخذ الإنسان لكل عملٍ يريده الأسباب التي توصله إلى تحقيقه فالله سبحانه وتعالى قد ربط المسببات بأسبابها.
بل إن الإنسان ينساق إلى الأخذ بالأسباب بمقتضى فطرته وبمقتضى التكليف الشرعي فإذا قال الإنسان أنا متوكل على الله في تحصيل رزقي ولم يتخذ الأسباب التي توصله إلى ذلك وتحقق له مطلبه فهو مخالف للفطرة ومخالف لشرع الله الذي جاء الأمر فيه باتخاذ الأسباب.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾، وقال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الأنفال: ٦٠]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ [البقرة: ١٩٧].
وغيرها من الآيات كثير في الأمر بالأخذ بالأسباب مع التوكل على الله في إتمام الأمور التي يسعى العبد في تحصيلها لأن التوكل من أعظم الأسباب وأنفعها في دفع المضار وجلب المنافع، فلا بد من الأخذ بالأسباب التي توصل الإنسان إلى تحقيق حاجاته والحصول على مطالبه، ومن قال بنفي الأسباب فتوكله مشوب ومدخول (٦).
٢ - استدل أهل القدر بهذه الآية بقوله: ﴿خذوا حذركمْ﴾، قالوا: لولا أن الحذر يمنع عنهم مكايد الأعداء ما كان لأمره بالحذر إياهم معنى.
فيقال لهم: الائتمار لأمر الله والانتهاء عن نهيه واجب عليهم لأنهم به يسلمون من معصية الله عز وجل لأن المعصية تزل، فائتمروا وانتهوا عما نهوا عنه.
وليس في هذه الآية دليل على أن حذرهم ينفع من القدر شيئا، وهذا كقول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: «اعقلها وتوكل» (٧)، والمراد به طمأنينة النفس لا أن ذلك يدفع القدر، كذلك في أخذ الحذر فهو الدليل على ذلك، أن الله تعالى أثنى على أصحاب رسول الله ﷺ بقوله حاكيا عنهم: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: ٥١]، وأمر بذلك رسوله ﷺ كان يصيبهم غير ما قضى عليهم ما كان هذا مني (٨).
القرآن
﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (٧٢)﴾ [النساء: ٧٢]
التفسير:
وإنَّ منكم لنفرًا يتأخر عن الخروج لملاقاة الأعداء متثاقلا ويثبط غيره عن عمد وإصرار، فإن قُدِّر عليكم وأُصِبتم بقتل وهزيمة، قال مستبشرًا: قد حفظني الله، حين لم أكن حاضرًا مع أولئك الذين وقع لهم ما أكرهه لنفسي، وسرَّه تخلفه عنكم.
(٢) [سورة التوبة: ١٢٢].
(٣) سنن البيهقي: ٩/ ٤٧.
(٤) المغمز: عيب يقال، ليس فيه غميزة ولا مغمز، أي: عيب انظر: المصباح المنير ٢/ ١٠٧.
(٥) نواسخ القرآن: ٢/ ٣٧٧ - ٣٧٨. وابن الجوزي ذكر هذا القول في زاد المسير ٢/ ١٣٠ عن أبي سليمان الدمشقي. ويجدر القول، بأن لم يذكر النحاس ومكي بن أبي طالب هذه الآية من المنسوخة أصلا.
(٦) انظر: مباحث العقيدة في سورة الزمر، ناصر بن علي: ٢٨٧.
(٧) سنن الترمذي (٢٥٢٢)، كتاب صفة القيامة باب: اعقلها وتوكل.
(٨) انظر: تفسير الثعلبي: ٣/ ٣٤٣.