وفي قوله تعالى: ﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ﴾ [النساء: ٩٠]، وجهان:
أحدهما: أنه إخبارٌ من الله عنهم بأن صدورهم حَصِرتْ. وهذا قول الجمهور وهو المشهور (١).
والثاني: أنه دعاء من الله عليهم بأن تُحصَرَ صدورهم، ومنه قوله تعالى: ﴿قَاتَلَهُمُ اللَّهُ﴾ [التوبة: ٣٠]، وهذا قول المبرد (٢).
وقرأ الحسن البصري: ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَةً صُدُورُهُمْ﴾، نصبًا (٣).
وفي قراءة أبيّ: ﴿بينكم وبينهم ميثاق جاؤكم حصرت صدورهم﴾، بغير «أو»، ووجهه أن يكون ﴿جاؤكم﴾ بيانا ليصلون، أو بدلا أو استئنافا، أو صفة بعد صفة لقوم (٤).
قال الطبري: "وهي صحيحة في العربية فصيحة، غير أنه غير جائزة القراءة بها عندي، لشذوذها وخروجها عن قراءة قرأة الإسلام" (٥).
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ﴾ [النساء: ٩٠]، أي: " ولو شاء الله لقوّاهم وجرّأهم عليكم فقاتلوكم" (٦).
قال ابن كثير: " أي: من لطفه بكم أن كفهم عنكم" (٧).
قال الثعلبي: " يعني سلط الله المشركين على المؤمنين عقوبة ونقمة" (٨).
قال السمعاني: " معنى هذا: أن الله - تعالى - هو الذي ألقى الرعب في قلوبهم، وكفهم عن قتالكم، حتى جاءوا معاهدين، ولو شاء الله لسلطهم عليكم" (٩).
وفي تسليطهم قولان (١٠):
أحدهما: بتقوية قلوبهم.
والثاني: بالإذن في القتال ليدافعوا عن أنفسهم.
قال الزمخشري: " فإن قلت: كيف يجوز أن يسلط الله الكفرة على المؤمنين؟ قلت: ما كانت مكافتهم إلا لقذف الله الرعب في قلوبهم، ولو شاء لمصلحة يراها من ابتلاء ونحوه لم يقذفه، فكانوا متسلطين مقاتلين غير مكافين، فذلك معنى التسليط" (١١).
وقرئ: ﴿فلقتلوكم﴾، بالتخفيف والتشديد (١٢).
قوله تعالى: ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ﴾ [النساء: ٩٠]، "أي: فإِن لم يتعرضوا لكم بقتال وانقادوا واستسلموا لكم فليس لكم أن تقاتلوهم" (١٣).
قال السمعاني: " يعنى: الصلح فانقادوا، واستسلموا" (١٤).
والسَّلَم: "هو الاستسلام. وإنما هذا مثلٌ، كما يقول الرجل للرجل: أعطيتك قِيادي، وألقيت إليك خِطَامي، إذا استسلم له وانقاد لأمره. فكذلك قوله: ﴿وألقوا إليكم السلم﴾، إنما هو: ألقوا إليكم قيادَهم واستسلموا لكم، صلحًا منهم لكم وسَلَمًا. ومن «السَّلم»، قول الطرمَّاح (١٥):

(١) انظر: تفسير الطبري: ٩/ ٢١، والنكت والعيون: ١/ ٥١٤.
(٢) انظر: تفسير السمعاني: ١/ ٤٦٠، والنكت والعيون: ١/ ٥١٤، والكشاف: ١/ ٥٤٧.
(٣) انظر: معاني القرآن للفراء: ١/ ٢٨٢، وتفسير الطبري: ٩/ ٢٢.
(٤) انظر: الكشاف: ١/ ٥٤٧.
(٥) تفسير الطبري: ٩/ ٢٢.
(٦) صفوة التفاسير: ٢٧١.
(٧) تفسير ابن كثير: ١/ ٣٧٢.
(٨) تفسير الثعلبي: ٣/ ٣٥٧.
(٩) تفسير السمعاني: ١/ ٤٦٠.
(١٠) انظر: النكت والعيون: ١/ ٥١٤.
(١١) الكشاف: ١/ ٥٤٧ - ٥٤٨.
(١٢) انظر: الكشاف: ١/ ٥٤٨.
(١٣) صفوة التفاسير: ٢٧١.
(١٤) تفسير السمعاني: ١/ ٤٦٠.
(١٥) ديوانه: ١٤٥، من قصيدته التي هجا بها الفرزدق وبيوت بني دارم وبني سعد فقال قبله: وَذَاكَ أنَّ تَمِيمًا..................................
وَدَارِمٌ قد قَذَفْنَا مِنْهُمُ مِئَةً فِي جَاحِمِ النَّارِ، إِذْ يُلْقَوْنَ فِي الخُدَدِ
يَنْزُونَ بالْمُشْتَوَى مِنْهَا، ويُوقِدُهَا عَمْرٌو، وَلَوْلا لُحُومُ الْقَوْمِ لَمْ تَقِدِ
فزعم أن عمرو بن المنذر اللخمي، أحرق بني دارم رهط الفرزدق، قال أبو عبيدة: ولم يكن للطرماح بهذا الحديث علم. يعني حديث يوم أوارة، وهو يوم غزا عمرو بن المنذر بني دارم، فقتل منهم تسعة وتسعين رجلا.


الصفحة التالية
Icon