٣ - قال ابن عطية: "وهذه الآية حض على قتل هؤلاء المخادعين إذا لم يرجعوا عن حالهم إلى حال الآخرين المعتزلين الملقين للسلم، وتأمل فصاحة الكلام في أن سياقه في الصيغة المتقدمة قبل هذه سياق إيجاب الاعتزال. وإيجاب إلقاء السلم، ونفي المقاتلة، إذ كانوا محقين في ذلك معتقدين له، وسياقه في هذه الصيغة المتأخرة سياق نفي الاعتزال، ونفي إلقاء السلم، إذ كانوا مبطلين فيه مخادعين، والحكم سواء على السياقين، لأن الذين لم يجعل الله عليهم سبيلا لو لم يعتزلوا لكان حكمهم حكم هؤلاء الذين جعل عليهم «سلطان مبين»، وكذلك هؤلاء الذين عليهم السلطان، إذ لم يعتزلوا، لو اعتزلوا لكان حكمهم حكم الذين لا سبيل عليهم. ولكنهم بهذه العبارة تحت القتل إن لم يعتزلوا" (١).
القرآن
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (٩٢)﴾ [النساء: ٩٢]
التفسير:
ولا يحق لمؤمن الاعتداء على أخيه المؤمن وقتله بغير حق، إلا أن يقع منه ذلك على وجه الخطأ الذي لا عمد فيه، ومن وقع منه ذلك الخطأ فعليه عتق رقبة مؤمنة، وتسليم دية مقدرة إلى أوليائه، إلا أن يتصدقوا بها عليه ويعفوا عنه. فإن كان المقتول من قوم كفار أعداء للمؤمنين، وهو مؤمن بالله تعالى، وبما أنزل من الحق على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فعلى قاتله عتق رقبة مؤمنة، وإن كان من قوم بينكم وبينهم عهد وميثاق، فعلى قاتله دية تسلم إلى أوليائه وعتق رقبة مؤمنة، فمن لم يجد القدرة على عتق رقبة مؤمنة، فعليه صيام شهرين متتابعين; ليتوب الله تعالى عليه. وكان الله تعالى عليما بحقيقة شأن عباده، حكيمًا فيما شرعه لهم.
في سبب نزول الآية أقوال:
أحدها: أنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي وكان أخا أبي جهل لأمه، قتل الحارث بن زيد من بني عامر بن لؤي، لأنه كان يعذب عياشاً مع أبي جهل، وهو لا يعلم بإسلامه. وهذا قول عكرمة (٢)، ومجاهد (٣)، والسدي (٤)، وسعيد بن جبير (٥)، والقاسم بن محمد بن أبي بكر (٦).
واختلف أين قتله:
أفقال عكرمة (٧)، وجاهد (٨): قتله بالحرّة بعد هجرته إلى المدينة وهو لا يعلم بإسلامه.
ب وقال السدي (٩): قتله يوم الفتح وقد خرج من مكة وهو لا يعلم بإسلامه.
والثاني: وقال ابن زيد: "نزل هذا في رجل قتله أبو الدرداء، نزل هذا كله فيه، كانوا في سرية، فعدَل أبو الدرداء إلى شِعْبٍ يريد حاجة له، فوجد رجلا من القوم في غنم له، فحمل عليه بالسيف فقال: لا إله إلا الله! قال: فضربه، ثم جاء بغنمه إلى القوم. ثم وجد في نفسه شيئًا، فأتى النبي ﷺ فذكر ذلك له، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا شققتَ عن قلبه! » فقال: ما عَسَيْتُ أجِدُ! هل هو يا رسول الله

(١) المحرر الوجيز: ٢/ ٩٢.
(٢) انظر: تفسير الطبري (١٠٠٩١): ص ٩/ ٣٢ - ٣٣، من طريق سنيد، وسنده ضعيف جداً؛ فيه ثلاث علل:
الأولى: الإرسال.
الثانية: ابن جريج لم يسمع من مجاهد.
الثالثة: سنيد صاحب "التفسير" ضعيف.
(٣) انظر: تفسير الطبري (١٠٠٨٩) - (١٠٠٩١): ص ٩/ ٣٢ - ٣٣، ووابن أبي حاتم في تفسيره (٥٧٨١): ص ٣/ ١٠٣١، والبيهقي في "السنن الكبرى" (٩/ ١٤) من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد به. وهذا سند صحيح؛ لكنه مرسل.
(٤) انظر: تفسير الطبري (١٠٠٩٢): ص ٩/ ٣٣، وسنده واهٍ بمرة؛ لإعضاله، وضعف أسباط، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٢/ ٦١٦)، وزاد نسبته لابن المنذر.
(٥) انظر: تفسير ابن أبي حاتم (٥٧٨٢): ص ٣/ ١٠٣١.
(٦) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (٨/ ٧٢)، سنده ضعيف؛ فيه علتان: الأولى: الإرسال. الثانية: ابن إسحاق مدلس، وقد عنعن، وأخرجه البيهقي (٨/ ١٣١)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (٢/ ٨١٣، ٨١٤ رقم ٢١٣٧)، مرسل حسن الإسناد، وهو أصح من الذي قبله. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٢/ ٦١٦، ٦١٧)، وزاد نسبته لابن المنذر.
ثم رأينا الحافظ ذكره في "الإصابة" (١/ ٢٩٥) ونسبه لأبي يعلى، والحارث بن أبي أسامه، وأبي مسلم الكجي.
(٧) انظر: تفسير الطبري (١٠٠٩١): ص ٩/ ٣٢ - ٣٣.
(٨) انظر: تفسير الطبري (١٠٠٨٩) - (١٠٠٩١): ص ٩/ ٣٢ - ٣٣.
(٩) انظر: تفسير الطبري (١٠٠٩٢): ص ٩/ ٣٣.


الصفحة التالية
Icon