والراجح أنها مدنية، فقد روي عن عائشة أنها قالت: "ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عنده" (١). تقصد عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال القرطبي: "تعني قد بنى بها، ولا خلاف بين العلماء أن النبي ﷺ إنما بنى بعائشة بالمدينة، ومن تبين أحكامها علم أنها مدنية لا شك فيها، وأما من قال: إن قوله: ﴿يا أيها الناس﴾، مكي حيث وقع، فليس بصحيح، فإن البقرة مدنية وفيها قوله: ﴿يا أيها الناس﴾ في موضعين (٢)، وقد تقدّم. والله أعلم" (٣).
مقاصد السورة:
سورة النساء تعتبر أطول سورة مدنية بعد سورة البقرة. وإنك لتقرؤها بتدبر وتفهم فتراها قد اشتملت على مقاصد عالية، وآداب سامية. وتوجيهات حكيمة، وتشريعات جليلة، وفيما يأتي مجمل ما اشتملت عليه سورة النساء (٤):
أولا: -بيان خلقة آدم وحواء، والأمر بصلة الرحم، والنهى عن أكل مال اليتيم وما يترتب عليه من عظم الإثم والعذاب لآكليه، وبيان المناكحات، وعدد النساء وحكم الصداق، وحفظ المال من السفهاء، وتجربة اليتيم قبل دفع المال إليه، والرفق بالأقارب وقت قسمة الميراث، وحكم ميراث أصحاب الفروض وذكر ذوات المحارم وبيان طول الحرة، وجواز التزوج بالأمة واجتناب الكبائر، وفضل الرجال على النساء، وبيان الحقوق، وحكم السكران وقت الصلاة. وآية التيمم.
ثانيا: - ذم اليهود وتحريفهم التوراة، ورد الأمانات إلى أهلها. في الآيات [١ - ٥٨]، وصفة المنافقين فى امتناعهم عن قبول أوامر القرآن. في الآيات: [٦٠ - ٦٨].
ثالثا: -الأمر بالقتال. في الآيات: [٧١ - ٨٥].
رابعا: - وجوب رد السلام والنهى عن موالاة المشركين، وتفصيل قتل العمد والخطأ. في الآيات: [٨٦ - ٩٣].
خامسا: - فضل الهجرة ووزر المتأخرين عنها، والإشارة إلى صلاة الخوف حال القتال. في الآيات: [٩٤ - ١٠٣].
سادسا: -النهى عن حماية الخائنين، وإيقاع الصلح بين الأزواج والزوجات وإقامة الشهادات، ومدح العدل في الآيات: [١٠٤ - ١٣٥].
سابعا: - ذم المنافقين. وذم اليهود، وذكر قصدهم من قتل عيسى- عليه السلام- في الآيات: [١٣٦ - ١٦١].
ثامنا: - فضل الراسخين فى العلم وإظهار فساد اعتقاد النصارى وافتخار الملائكة والمسيح بمقام العبودية، وذكر ميراث الكلالة. في الآيات: [١٦٢ - ١٧٦].
وجوه المناسبة بين سورة النساء والتي قبلها:
ومن وجوه المناسبة بين هذه السورة وبين سورة "آل عمران" التي قبلها (٥):
أولا: أن سورة "آل عمران" اختتمت بالأمر بالتقوى في قوله- تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: ٢٠٠]
وسورة "النساء" افتتحت بالأمر بالتقوى، قال- تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ [النساء: ١].
قال الآلوسي: "وذلك من آكد وجوه المناسبات في ترتيب السور، وهو نوع من أنواع البديع يسمى في الشعر تشابه الأطراف، وقوم يسمونه بالتسبيغ (٦)، وذلك كقول ليلى الأخيلية (٧):
إذا نزل الحجاج أرضا مريضة | تتبع أقصى دائها فشفاها |
(٢) وهو قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ٢١، و ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [البقرة: ١٦٨].
(٣) تفسير القرطبي: ٥/ ٥، وانظر: تفسير العز بن عبدالسلام: ١/ ٣٠١.
(٤) انظر: بصائر ذوى التمييز فى لطائف الكتاب العزيز للفيروزآبادي: ١/ ١٧٠ - ١٧٧.
(٥) انظر: روح المعاني: ٢/ ٣٨٩، والتفسير الوسيط لطنطاوي: ٣/ ٨.
(٦) وهو: "أن يختم الكلام بما يناسب ابتداءه فى المعنى؛ نحو: ﴿لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الأنعام: ١٠٣] ". انظر: عروس الافراح في شرح تلخيص المفتاح، بهاءالدين السبكي: ٢/ ٢٣٤.
وفي الشعر: "أن يجعل الشاعر قافية بيته الأوّل أوّل البيت الثانى، وقافية الثانى أوّل الثالث، وهكذا إلى انتهاء كلامه". انظر: نهاية الإرب في فنون الادب، النزيري: ٧/ ١٨١.
(٧) انظر: الأغاني: ١١/ ٢٤٨، والبحر المحيط: ٦/ ١٤١، وتفسير القرطبي: ٤/ ٨٠.