قال الطبري: أي: "أوفوا بالعهود التي عاهدتموها ربَّكم، والعقود التي عاقدتموها إياه، وأوجبتم بها على أنفسكم حقوقًا، وألزمتم أنفسكم بها لله فروضًا، فأتمُّوها بالوفاء والكمال والتمام منكم لله بما ألزمكم بها، ولمن عاقدتموه منكم، بما أوجبتموه له بها على أنفسكم، ولا تنكُثُوها فتنقضوها بعد توكيدها" (١).
قال الزجاج: " خاطب الله جل وعز جميع المؤمنين بالوفاء بالعقود التي عقدها الله عليهم، والعقود التي يعقدها بعضهم على بعض على ما يوجبه الدين... و ﴿العقود﴾: العهود" (٢).
قال الشافعي: " جماع الوفاء بالنذر وبالعهد، كان بيمين أو غيرها في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ الآية، وهذا من سعة لسان العرب الذي خوطبت به، وظاهره عام على كل عقد، ويشبه - واللَّه تعالى أعلم - أن يكون أراد اللَّه - عز وجل -، أن يوفى بكل عقد كان بيمين أو غير يمين، وكل عقد نذر، إذا كانت في العقد لله طاعة، ولم يكن فيما أمر بالوفاء منها معصية" (٣).
قال الجصاص: " اشتمل قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود﴾، على إلزام الوفاء بالعهود والذمم التي نعقدها لأهل الحرب وأهل الذمة والخوارج وغيرهم من سائر الناس وعلى إلزام الوفاء بالنذور والأيمان وهو نظير قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ [النحل: ٩١] " (٤).
قال الزمخشري: "والظاهر أنها عقود الله عليهم في دينه من تحليل حلاله وتحريم حرامه وأنه كلام قدم مجملا ثم عقب بالتفصيل وهو قوله أحلت لكم وما بعده" (٥).
و«العقود»، جمع: «عَقْدٍ»، وأصل «العقد»، عقد الشيء بغيره، وهو وصله به، كما يعقد الحبل بالحبلِ، إذا وصل به شدًّا. يقال منه: عقد فلان بينه وبين فلان عقدًا، فهو يعقده، ومنه قول الحطيئة (٦):
قَوْمٌ إذَا عَقَدُوا عَقْدًا لِجَارِهِمُ | شَدُّوا العِنَاجَ وَشَدُّوا فَوْقَهُ الْكَرَبَا |
والمراد بالإيفاء بالعهد" إتمامه على ما عقد عليه من شروطه الجائزة" (٨).
وفي تفسير قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: ١]، ستة أقاويل:
أحدها: أنها عهود الله، التي أخذ بها الإِيمان، على عباده فيما أحله لهم، وحرمه عليهم، وهذا قول ابن عباس (٩)، ومجاهد (١٠).
(٢) معاني القرآن: ٢/ ١٣٩.
(٣) تفسير الغمام الشافعي: ٢/ ٦٩٢.
(٤) أحكام القرآن: ٣/ ٢٨٦.
(٥) الكشاف: ١/ ٦٠١.
(٦) ديوانه: ٦، مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٤٥، اللسان (كرب) (عنج)، من قصيدته التي قالها في الزبرقان بن بدر، وبغيض بن عامر من بني أنف الناقة، فمدح بغيضًا وقومه فقال:
قَوْمٌ هُمُ الأَنْفُ، وَالأَذْنَابُ غَيْرهُمُ، | وَمَنْ يُسَوِّي بِأَنْفِ النَّاقَةِ الذَّنَبَا! |
قَوْمٌ يَبِيتُ قَرِيرَ العَيْنِ جَارُهُمُ | إذَا لَوَى بقُوَى أَطْنَابِهِمْ طُنُبَا |
(٧) انظر: تفسير الطبري: ٩/ ٤٥١ - ٤٥٢، ومعاني القرآن للزجاج: ٢/ ١٣٩ - ١٤٠.
(٨) تفسير الطبري: ٩/ ٤٥٥.
(٩) انظر: تفسير الطبري (١٠٩٠٧): ص ٩/ ٤٥٢.
(١٠) انظر: تفسير الطبري (١٠٩٠٨): ص ٩/ ٤٥٢ - ٤٥٣.