قال مقاتل: " أي: فقدروا أن يفتدوا به من عذاب جهنم يوم القيامة" (١).
قال السمرقندي: أي" فيقدر على أن يفتدي بها، من العذاب لافتدى بها" (٢).
قال الراغب: " أي لو حصل كل واحد ما في الأرض ومثله قاصدا بإحرازه أن يجعل ذلك وقاية لنفسه" (٣).
قال أبو حيان: " المعنى: لو أن ما في الأرض ومثله معه مستقر لهم على سبيل الملك ليجعلوه فدية لهم" (٤).
قال ابن كثير: أي: " ليفتدي بذلك من عذاب الله الذي قد أحاط به وتيقن وصوله إليه " (٥).
قال الزمخشري: " ﴿ليفتدوا به﴾، ليجعلوه فدية لأنفسهم" (٦).
وقد وحّد الضمير في قوله: ﴿ليفتدوا به﴾، وإن كان قد تقدم شيئان معطوف عليه ومعطوف، وهو ﴿ما في الأرض ومثله معه]، لوجهين (٧):
أحدهما: لفرض تلازمهما فأجريا مجرى الواحد، كما قالوا: رب يوم وليلة مر بي، قال الشاعر (٨):
والثاني: وإما لإجراء الضمير مجرى اسم الإشارة كأنه قال: ليفتدوا بذلك.فَمَنْ يَكُ أمْسَى بالمَدِينَةِ رَحْلُهُ فإنّي وَقيار بِهَا لَغَرِيبُ
قال الزمخشري: "ويجوز أن تكون الواو في: ومثله، بمعنى مع، فيوحد المرجوع إليه" (٩).
قوله تعالى: {مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ﴾ [المائدة: ٣٦]، أي: " ما تَقبَّل الله ذلك منهم" (١٠).
قال السعدي: أي: "ما تقبل منهم، ولا أفاد، لأن محل الافتداء قد فات" (١١).
قال السمرقندي: أي: " لو كان ذلك لهم ففعلوه ما تقبل منهم ذلك النداء" (١٢).
قال الراغب: أي: " لم ينفعه، وذلك حث على المبادرة بالامتناع عن الآثام وترك الاهتمام بالمال في المعاد" (١٣).
قال البغوي: " أخبر أن الكافر لو ملك الدنيا كلها ومثلها معها ثم فدى بذلك نفسه من العذاب لم يقبل منه ذلك الفداء" (١٤).
قال الزمخشري: " وهذا تمثيل للزوم العذاب لهم، وأنه لا سبيل لهم إلى النجاة منه بوجه" (١٥).
قال ابن كثير: أي: " ما تُقُبل ذلك منه، بل لا مندوحة عنه ولا محيص له ولا مناص" (١٦).
وقرأ يزيد بن قطيب: «تقبل»، بفتحها على معنى: ما قبل الله (١٧).
قوله تعالى: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [المائدة: ٣٦]، أي: " ولهم عذاب مُوجع" (١٨).
قال السمرقندي: "أي وجيع" (١٩).
قال ابن كثير: " أي: موجع" (٢٠).
قال أبو حيان: " لما أرشد المؤمنين إلى معاقد الخير ومفاتح السعادة، وذكر فوزهم في الآخرة وما آلوا إليه من الفلاح، شرح حال الكفار وعاقبة كفرهم، وما أعد لهم من العذاب" (٢١).
روى أنس عن النبي ﷺ قال: «يقال للكافر يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا، أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، قال: فيقال له: قد سئلت أيسر من ذلك» (٢٢).
الفوائد:
١ - أن سبب الفلاح والنجاة إنما يكون من نفس الإنسان لا من خارج عنها، قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس: ٩ - ١٠].
وهذا هو الفارق بين الإسلام وغيره من الأديان فالنصارى يعتقدون أن خلاصهم وسعادتهم يكون بالمسيح فدية لهم يفتديهم بنفسه مهما كانت حالهم، والمسلمون يعتقدون أن العمدة فى النجاة تزكية النفس بالفضائل والأعمال الصالحة.
٢ - أن من استحق العذاب ذلك اليوم لا يُقبل منه عدل؛ قال تعالى: ﴿إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم﴾.
٣ - أن النار عذابها شديد، وفيها من الأهوال وألوان العذاب ما يجعل الإنسان يبذل في سبيل الخلاص منها نفائس الأموال. وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - ﷺ -: " يؤتي بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب " (٢٣).
إنها لحظات قليلة تُنسي أكثر الكفار نعيماً كلّ أوقات السعادة والهناء.
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - ﷺ -: " يقول الله - تبارك وتعالى - لأهون أهل النار عذاباً لو كانت لك الدنيا وما فيها، أكنت مفتدياً بها؟ فيقول: نعم. فيقول أردت منك أهون من هذا، وأنت في صلب آدم أن لا تشرك (أحسبه قال: ) ولا أدخلك النار، فأبيت إلا الشرك " (٢٤).
إن شدة النار وهولها تفقد الإنسان صوابه، وتجعله يجود بكل أحبابه لينجو من النار، وأنى له النجاة: ﴿يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه* وصاحبته وأخيه* وفصيلته التي تؤيه* ومن في الأرض جميعاً ثم ينجيه* كلا إنها لظى * نزاعة للشوى﴾ [المعارج: ١١ - ١٦].
وهذا العذاب الهائل المتواصل يجعل حياة هؤلاء المجرمين في تنغيص دائم، وألم مستمر.
القرآن
﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (٣٧)﴾ [المائدة: ٣٧]
(٢) بحر العلوم: ٣٨٧.
(٣) تفسير الراغب الأصفهاني: ٤/ ٣٣٠.
(٤) البحر المحيط: ٤/ ٢٤٣.
(٥) تفسير ابن كثير: ٣/ ١٠٥.
(٦) الكشاف: ١/ ٦٢٩.
(٧) انظر: الكشاف: ١/ ٦٢٩ - ٦٣٠.
(٨) ن الأبيات التي قالها ضأبى بن الحارث البرجى وهو محبوس بالمدينة فى زمن عثمان بن عفان، فى الأصمعيات ١٦. والبيت فى الكتاب ١/ ٢٩ والكامل ١٨١ والطبري ٦/ ١٢١ والشنتمرى ١/ ٣٨ والقرطبي ٦/ ٢٤٦ وابن يعيش ١/ ١١٣، ٢/ ١١٢٦ والعيني ٢/ ٣١٨ وشواهد المغني ٢٩٣ والخزانة ٤/ ٢٢٣ واللسان والتاج (قير).
(٩) الكشاف: ١/ ٦٢٩.
(١٠) التفسير الميسر: ١١٣.
(١١) تفسير السعدي: ٢٣٠.
(١٢) بحر العلوم: ٣٨٧.
(١٣) تفسير الراغب الأصفهاني: ٤/ ٣٣٠.
(١٤) تفسير البغوي: ٣/ ٥١.
(١٥) الكشاف: ١/ ٦٢٩.
(١٦) تفسير ابن كثير: ٣/ ١٠٥.
(١٧) انظر: المحرر الوجيز: ٢/ ١٨٧.
(١٨) التفسير الميسر: ١١٣.
(١٩) بحر العلوم: ٣٨٧.
(٢٠) تفسير ابن كثير: ٣/ ١٠٥.
(٢١) البحر المحيط: ٤/ ٢٤٢.
(٢٢) مسند أحمد (١٤١٠٧): ص ٢١/ ٤٧١، وأخرجه البخاري (٦٥٣٨)، ومسلم (٢٨٠٥) (٥٢)، وأبو يعلى (٢٩٢٦) و (٢٩٧٦) و (٣٠٢١)، وأبو عوانة في القدر كما في "إتحاف المهرة" ٢/ ٢٥٥، وابن حبان (٧٣٥١) من طرق عن معاذ بن هشام، به. وانظر (١٣٢٨٨).
(٢٣) روه مسلم: ٢٨٠٧.
(٢٤) رواه البخاري: صحيح البخاري: ٣٣٣٤، ورواه مسلم: ٢٨٠٥. المصابيح: (٣/ ١٠٢).