..................................
_________
=أن كلمة «ثمّ» ليست للتراخي، بل مستعارة للتفاوت بين الإفاضتين- أي: الإفاضة من عرفات والإفاضة من مزدلفة- والبعد بينهما بأنّ أحدهما صواب والآخر خطأ. وعليه الإمام الزمخشري في " الكشاف " (١/ ٢٤٧).
وورد عليه اعتراضان ذكرهما وأجاب عنهما الإمام السعد في حاشيته.
أن الترتيب في الذكر - للأهمية - لا في الزمان الواقع فيه الإفعال. أي: (ثُمَّ) لِعَطْفِ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، لَا لِلتَّرْتِيبِ. هو قول الحرالي، نقله عنه: الإمام البقاعي ت: ٨٨٥ هـ، في " نظم الدرر في تناسب الآي والسور " (٣/ ١٥٣) [دار الكتاب الإسلامي، القاهرة]، واختاره شيخ زادة في حاشيته.
أن تكون هذه الجملة ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا﴾ معطوفة على قوله: ﴿وَاتَّقُونِ يَاأُوْلِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: ١٩٧]، ففي الكلام تقديم وتأخير. ذكره الإمام الطبري في تفسيره (٤/ ١٩٠)، والإمام زين الدين الرازي ت: ٦٦٦ هـ، في " أنموذج جليل في أسئلة وأجوبة عن غرائب آي التنزيل " (١/ ٢١) [تحقيق: د. عبد الرحمن بن إبراهيم المطرودى، دار عالم الكتب المملكة العربية السعودية - الرياض، ط: الأولى، ١٤١٣ هـ، ١٩٩١ م].
وقد ذكر الإمام أبو حيان ذلك القول في " البحر المحيط " (٢/ ٣٠١) ثم رد عليه قائلا: " لَكِنَّ التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ هُوَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِالضَّرُورَةِ، وَنُنَزِّهُ الْقُرْآنَ عَنْ حَمْلِهِ عَلَيْهِ."
أن تكون " ثم" بمعنى الواو. لَا تَدُلُّ عَلَى تَرْتِيبٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَأَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ، فَهِيَ لِعَطْفِ كَلَامٍ عَلَى كَلَامٍ مُقْتَطَعٍ مِنَ الْأَوَّلِ، وَقَدْ جَوَّزَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنْ: ثُمَّ، تَأْتِي بِمَعْنَى الْوَاوِ، فَلَا تَرْتِيبَ. ينظر: معالم التنزيل (١/ ٢٥٦).
ومنهم من قال: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا﴾ إنه أَمْرٌ عَامٌّ لِكُلِّ النَّاسِ، والْمُرَادُ بـ ﴿مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النّاسُ﴾: إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَإِنَّ سُنَّتَهُمَا كَانَتِ الْإِفَاضَةَ مِنْ عَرَفَاتٍ.
وقد ذكر الْقَفَّالُ - رَحِمَهُ اللَّهُ- رأيا ثالثا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النّاسُ﴾: عِبَارَةً عَنْ تَقَادُمِ الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَةَ، وَأَنَّهُ هُوَ الْأَمْرُ الْقَدِيمُ وَمَا سِوَاهُ فَهُوَ مُبْتَدَعٌ مُحْدَثٌ، كَمَا يُقَالُ: هَذَا مِمَّا فَعَلَهُ النَّاسُ قَدِيمًا. نقله عنه الإمام الرازي في " مفاتيح الغيب " (٥/ ٣٣١).
وقد رد عليه الإمام أبو حيان في " البحر المحيط " (٢/ ٣٠٢) حيث قال: " وَقَالَ الْقَفَّالُ: ﴿مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النّاسُ﴾، عِبَارَةٌ عَنْ زَمَانِ الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَةَ."
وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِخْرَاجِ حَيْثُ عَنْ مَوْضُوعِهَا الْأَصْلِيِّ، وَكَأَنَّهُ رَامَ أَنْ يُغَايِرَ بِذَلِكَ بَيْنَ الْإِفَاضَتَيْنِ، لِأَنَّ الْأُولَى فِي الْمَكَانِ، وَالثَّانِيَةَ فِي الزَّمَانِ، وَلَا تَغَايُرَ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَقْتَضِي الْآخَرَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ، فَهُمَا مُتَلَازِمَانِ. أَعْنِي: مَكَانَ الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَزَمَانَهَا. فَلَا يَحْصُلُ بِذَلِكَ جَوَابٌ عن مجيء العطف بـ (ثم)."
الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الضَّحَّاكِ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ: الْإِفَاضَةُ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِلرَّمْيِ وَالنَّحْرِ، وَقَوْلُهُ: ﴿مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النّاسُ﴾: إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ وَأَتْبَاعُهُمَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَتْ طَرِيقَتُهُمُ الْإِفَاضَةَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالْعَرَبُ الَّذِينَ كَانُوا وَاقِفِينَ بِالْمُزْدَلِفَةِ كَانُوا يُفِيضُونَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. ذكره الإمام الطبري في تفسيره (٤/ ١٨٩). وَعَلَى هَذَا تَكُونُ (ثُمَّ) عَلَى بَابِهَا، أَيْ: لِلتَّرْتِيبِ.
وقال الإمام الطاهر بن عاشور ت: ١٣٩٣ هـ، في " التحرير والتنوير " (٢/ ٢٤٤): " وَلَوْلَا مَا جَاءَ مِنَ الْحَدِيثِ [يقصد حديث عائشة في سبب النزول] لَكَانَ هَذَا التَّفْسِيرُ أَظْهَرَ، لِتَكُونَ الْآيَةُ ذَكَرَتِ الْإِفَاضَتَيْنِ بِالصَّرَاحَةِ، وَلِيُنَاسِبَ قَوْلَهُ بَعْدُ: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ﴾ [البقرة: ٢٠٠]." [المسمى: تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد، الدار التونسية للنشر - تونس، ١٩٨٤ هـ].


الصفحة التالية
Icon