إن قوله تعالى: ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ يوجب الاستقبال، وقد ثبت عقلًا أنه لا سبيل إلى الاستقبال إلى الجهات إلا بالاجتهاد، وثبت بالعقل: أن ما لا يتم الوجوب إلا به فهو واجب، لزم القطع بوجوب الاجتهاد، والاجتهاد لا بد وأن يكون مبنيًا على الظن، فكانت الآية دالة على التكليف بالظن، فثبت بهذا أن التكليف بالظن واقع في الجملة، ودلت الآية أيضًا على وجوب تعلم أدلة القبلة).
وفي الصفحة ٨٤ وعند تفسيره الآية الكريمة:
(﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (١٨)﴾. قال:
هذا خبر من الله جل ثناؤه عن المنافقين، أنهم باشترائهم الضلالة بالهدى لم يكونوا للهدى والحق مهتدين؛ بل هم ﴿صُمٌّ﴾ عن السماع النافع الموصل إليهما، فلا يسمعون بها لغلبة خذلان الله عليهم، ﴿بُكْمٌ﴾ عن النطق بهما، فلا ينطقون بهما لأن قلوبهم مختوم عليها، فلا ينبعث منها خير تقذفه إلى الألسنة؛ والبكم: الخرس، وهو جمع أبكم. ﴿عُمْيٌ﴾ عن أن يبصروهما فيعقلوهما، لأن الله قد طبع على قلوبهم بنفاقهم فلا يهتدون.
وقد سبق لي أثناء الكلام على تفسير هذه الآية في الدرس، أن قلت:
إن السمع والبصر ينقسمان إلى قسمين:
الأول: سمع وبصر طبيعيان موجودان من أصل الخلقة والفطرة، وهذان يشئرك فيهما جميع الحيوانات إلا النادر.
والثاني: سمع وبصر موهوبان من الله تعالى، وبهما يطلع صاحبهما على أسرار الكون واستجلاء الحقائق، ولهما مَعين، وهو الفكر المستنير بنور من الله تعالى، المستمد من حكمة آثار الكون وعجائبه بواسطة البصر، ومن كلام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بواسطة السمع.
فإذا اهتدت النفس الناطقة، بسبب هذه الثلاثة، انطلق اللسان بالحق، وأنبأ عن تفجر ينابيع الحكمة في القلب، وإلا أصبح اللسان أبكم عن النطق بتلك