مالك للكل، فوجب أن يملك منهم كونهم مشتغلين بحمده، وأن تكون للقدرة، والاستيلاء، على حد قولك: "البلد للسلطان"، والله سبحانه وتعالى له القدرة، لأنه واجب لذاته، وما سواه ممكن لذاته، والواجب لذاته مستول على الممكن لذاته، فالحمد بمعنى: أن الحمد لا يليق إلا به، وبمعنى: أنه هو المستولي على الكل، والمستعلي على الكل.
ثم لما أثبت له الحمد، لاستحقاقه لجميع المحامد، لاتصاف ذاته بجميع الكمالات، أشار إلى أنه يستحقه أيضًا من جهة كونه ربًا مالكًا، فقال: ﴿رب العالمين﴾، مشيرًا به إلى ابتداء الخلق تنبيهًا على الاستدلال، بالمصنوع على الصانع، وبالبداءة على الإعادة، فالرب بمعنى: المالك، كما يقال: رب الدار لمالكها، ويكون بمعنى التربية، ويصح إرادة المعنيين هنا؛ فيكون معناه: المالك الذي يسوس من يملكه، ويربيه، ويدبره، والمربي، إما أن يربي شيئًا ليربح عليه بسبب تربيته، وإما أن يربيه ليربح المربي، وتربية جميع الخلق من القسم الأول، فهم يربون غيرهم ليربحوا عليه، إما ثوابًا أو ثناءً، والله تعالى يربي العالمين، ليربحوا عليه لا ليربح عليهم، فهو تعالى يربي، ويحسن، يربي العالمين لا لغرض نفسه، بل لغرضهم، يربيهم ولا تنقص تربيتهم شيئًا من خزائنه، وإذا ألحوا عليه في الطلب أحبهم، يعطي قبل السؤال ولا ينقطع إحسانه.
و﴿العالمين﴾ جمع عالم، وهو كل موجود سوى الله، سواء كان متحيزًا قابلًا للقسمة، كالجسم، سواء كان علويًا، كالأفلاك والكواكب، وغيرها من العلويات، كالعرش والكرسي. أو سفليًا كالهواء والأرض والماء والنبات والمعادن والحيوانات، على كثرة أقسامها، وتباين أنواعها. أو غير قابل للقسمة، كالجزء الذي لا يتجز، وهو الجوهر الفرد.
وسواء كان ممكنًا صفة للمتحيزات، كالأعراض من الألوان والطعوم والروائح، أو ممكنًا ليس متحيزًا ولا صفة لمتحيز، كالأرواح، وهي إما سفلية خيرة كصالحي الجن، أو شريرة كالمردة والشياطين، وإما علوية، كالملائكة، ولا يحقق بعض هذا المقام إلا من برع في فن طبقات الأرض، وفي فنون أحوال الجو والفلك والنبات، فإن هذه الفنون يضطر المفسر إليها، وكل من كان أكثر إحاطة بها كان أكثر إحاطة ووقوفًا