وقوله: ﴿وعلى أبصارهم غشاوة﴾ ابتداء كلام، والغشاوة في كلام العرب الغطاء، قال الحارث بن خالد بن العاص:

هَوِيتُكَ إِذ عَينِي عليها غِشاوةٌ فلمّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نَفْسِي أَلُومُها (١)
والمعنى: أن أبصارهم، لأنها لا تجتلي آيات الله المعروضة، ودلائله المنصوبة كما تجتليه أعين المعتبرين المستبصرين، كأنما غطي عليها، وحجبت وحيل بينها وبين الإدراك.
والعذاب مثل "النَّكال" وزنًا ومعنى، لأنك تقول: أعذبت عن الشيء إذا أمسكت عنه، كما تقول: نَكَل عنه، ومنه العذب لأنه يقمع العطش ويردعه، ثم اتسع فيه فسمي كل ألم فادح عذابًا، وإن لم يكن نكالًا، أي: عقابًا يرتدع به الجاني عن المعاودة.
والفرق بين ﴿العظيم﴾ والكبير، أن العظيم نقيض الحقير، والكبير نقيض الصغير، فكان العظيم فوق الكبير، كما أن الحقير دون الصغير، ومعنى التنكير، أن على أبصارهم غشاوة، هي نوع من الأغطية غير ما يتعارفه الناس، وهو غطاء التعامي عن آيات الله، ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم لا يعلم كنهه إلا الله.
ولما وصف الله سبحانه في مفتتح السورة، الذين أخلصوا دينهم لله، ووافقت فيه قلوبهم ألسنتهم، وواطأ سرهم علنهم، وفعلهم قولهم، وثنَّى بالذين محضوا الكفر ظاهرًا وباطنًا، قلوبًا وألسنة، ثلَّث بالذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وأبطنوا خلاف ما أظهروا، وهم الذين قال فيهم ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ﴾ [النساء: ١٤٣]، وسماهم المنافقين، وكانوا أخبث الكفرة، وأبغضهم إليه، وأمقتهم عنده، لأنهم خلطوا بالكفر تمويهًا وتدليسًا، وبالشرك استهزاءً وخداعًا، فوصف حال الذين كفروا في آيتين، وحال الذين نافقوا في ثلاث عشرة
(١) لسان العرب، ٢/ ٩٩١ وفيه: (صَحِبتكَ بدلًا من (هويتك).
وهو في مجاز القرآن لأبي عبيدة ١/ ٣١ تبعتك، والطبري (٣٠٦) تبعتك وقبل ١٤٣٨٤ صحبتك، والأغاني (١١٦٣) دار الشعب في ترجمته (صحبتك).


الصفحة التالية
Icon