حكاية عن الملائكة أنهم قالوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ [البقرة: ٣٠] كأنهم يقولون: أتجعل في الأرض من يعصيك ويخالف أمرك، ألا ترى أن الكاذب ينتج كذبه غش الناس وخداعهم، والذي لم يقف عند حدود الله كيف يغتصب مال هذا، ويتوصل بالزور والبهتان إلى ضرر هذا، والحاكم بغير ما أنزل الله، كيف يوقع الناس في تضييع الحقوق، وإعطاء المال لغير مالكه، يتصرف فيه مع حرمان المالك عنه، إلى غير ذلك من الموبقات التي من جملتها إثارة الحروب والفتن، وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس، والزروع والمنافع الدينية والدنيوية، فكذلك صفة أهل النفاق بمعصيتهم في الأرض ربهم، وركوبهم فيها ما نهى الله عن ركوبه، وتضييعهم فرائضه، وشكهم في دين الله الذي لا يقبل عملًا من أحد إلا بالتصديق به، والإيقان بحقيقته، وكذبهم المؤمنين بدعواهم، غير ما هم عليه مقيمون من الشك والريب، وبمظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله، على أولياء الله، إذا وجدوا إلى ذلك سبيلًا، فذلك إفساد المنافقين في أرض الله، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها، فلم يسقط الله عنهم عقوبته، ولا خفف عنهم أليم ما أعد من عقابه لأهل معصيته، بحسبانهم أنهم فيما أتوا من معاصي الله مصلحون، بل أوجب لهم الدرك الأسفل من ناره، والأليم من عذابه.
وردّ عليهم إفكهم بقوله:
﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (١٢)﴾.
فأتى بـ ﴿ألا﴾ الدالة على التنبيه، على أن ما بعدها محقق، وهي مركبة. من الهمزة التي للاستفهام، و "لا" النافية، وهمزة الاستفهام إذا دخلت على النفي أفادت التحقيق، ومن أجل ذلك لا تكاد تقع الجملة بعدها، إلا مصدرة بنحو ما يتلقى به القسم، فرد الله ما ادعوه من الانتظام في سلك المصلحين أبلغ رد، وأدلّه على سخط عظيم، و ﴿ألا﴾ ملغيّة جاءت من جهة الاستئناف، ومن جهة ما في ﴿ألا﴾، و "إنّ"، من معنى التأكيد، ومن جانب تعريف الخبر، وتوسيط ضمير الفصل بين اسم إن وخبرها.


الصفحة التالية
Icon