ومعنى ﴿يمدهم﴾: يزيدهم، ويملي لهم ويتركهم ﴿في طغيانهم﴾، أي: في ضلالهم وكفرهم، وتجاوز الحد في ذلك ﴿يعمهون﴾، أي: يترددون حيارى (١) ضلالًا لا يجدون إلى المخرج سبيلًا، قد طبع الله على قلوبهم، وختم عليها فأعمى أبصارهم عن الهدى، وأغشاها فلا يبصرون رشدًا، ولا يهتدون سبيلًا، فقوله: ﴿يمدهم﴾، مضارع "مَدَّ" الجيش، وأمده إذا زاده، وألحق به ما يقويه ويكثره، و"الطغيان": الغلو في الكفر، ومجاوزة الحد في العتو، ومعنى ﴿يعمهون﴾ يتخبطون تخبط الذي لا بصيرة له أصلًا، مأخذوة من العمه، وهو: انبهام الأمور التي فيها دلالات ينتفع بها عند فقد الحس، فلا يبقى لصاحبه سبب يرجعه عن طغيانه، فلا يتعدى حدًا إلا عَمِهَ، فلم يرجع عنه، فهو أبدًا متزايد الطغيان. ولما تقرر ذلك كله كانت فذلكته بدون توقف:
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (١٦)﴾.
إن قال قائل: كيف اشترى هؤلاء القوم الضلالة بالهدى، وقد كانوا منافقين لم يتقدم نفاقهم إيمان فيقال فيهم: باعوا هداهم الذي كانوا عليه بضلالتهم التي استبدلوها منه، والشراء اعتياض شيء، ببذل شيء مكانه عوضًا منه، والمنافقون الذين وصفهم الله بهذه الصفة، ألم يكونوا قط على هدى فيتركوه ويعتاضوا منه كفرًا ونفاقًا؟ أجيب بما روي عن ابن عباس وابن مسعود، أنهما قالا: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، وذلك أن كل كافر بالله مستبدل بالإيمان كفرًا، باكتسابه الكفر الذي وجد منه، بدلًا من الإيمان الذي أمر به، لأن كل مشتر شيئًا فإنما يستبدل مكان الذي يؤخذ منه من البدل آخر بدلًا منه، فكذلك المنافق والكافر، استبدلا بالهدى، الضلالة والنفاق، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (١٠٨)﴾ [البقرة: ١٠٨] فأضل الله أولئك وسلبهم نور الهدى، فترك جميعهم ﴿فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [البقرة: ١٧]، فخسروا بذلك، ﴿فما ريحت تجارتهم﴾، لأن

(١) الأصل (حيالًا) والتصويب من تفسير ابن كثير.


الصفحة التالية
Icon