الربيع البقل، ثم بيّن بقوله: ﴿ذهب الله بنورهم﴾، أنه هو الفعال المطلق، والقادر الذي لا يعجزه شيء، إن شاء سلب الأشياء خصائصها، والملزومات لوازمها، فيسلب النار ضوءها إذا شاء، ويهبها إياه إذا أراد.
لما فرغ من المثل، كشف المراد بظلماتهم، بأنها ما في آذانهم من الثقل المانع من الانتفاع بالسماع، وما في ألسنتهم من الخرس عن كلام الخير، الناشئ عن عدم الإدراك، الناشئ عن عمى البصائر، وفساد الضمائر والسرائر، وما على أبصارهم من الغشاوة المانعة من الاعتبار، وعلى بصائرهم من الأغطية المنافية للادّكار، فقال:
﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (١٨)﴾.
هذا خبر من الله جل ثناؤه عن المنافقين، أنهم باشترائهم الضلالة بالهدى لم يكونوا للهدى والحق مهتدين؛ بل هم ﴿صم﴾ عن السماع النافع الموصل إليهما، فلا يسمعون بها لغلبة خذلان الله عليهم، ﴿بكم﴾ عن النطق بهما، فلا ينطقون بهما لأن قلوبهم مختوم عليها، فلا ينبعث منها خير تقذفه إلى الألسنة؛ والبكم الخرس، وهو جمع أبكم. ﴿عمي﴾ عن أن يبصروهما فيعقلوهما، لأن الله قد طبع على قلوبهم بنفاقهم فلا يهتدون، وقد سبق لي أثناء الكلام على تفسير هذه الآية في الدرس، أن قلت: إن السمع والبصر ينقسمان إلى قسمين؛ الأول: سمع وبصر طبيعيان موجودان من أصل الخلقة والفطرة، وهذان يشترك فيهما جميع الحيوانات إلا النادر؛ والثاني: سمع وبصر موهوبان من الله تعالى، وبهما يطلع صاحبهما على أسرار الكون واستجلاء الحقائق، ولهما مَعين، وهو الفكر المستنير بنور من الله تعالى، المستمد من حكمة آثار الكون وعجائبه بواسطة البصر، ومن كلام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بواسطة السمع.
فإذا اهتدت النفس الناطقة، بسبب هذه الثلاثة، انطلق اللسان بالحق، وأنبأ عن تفجر ينابيع الحكمة في القلب، وإلا أصبح اللسان أبكم عن النطق بتلك المواهب، والأعين عميًا عن رؤية الآثار الإلهية في الكون، والآذان صمًّا عن سماع كلام الأنبياء، وحكمة الحكماء.
فالمنافقون وإن وُهبوا القسم الأول فإنهم لم يوهبوا القسم الثاني، كما أخبر


الصفحة التالية
Icon