وقيل : نزلت هذه الآية في نصارى نجران.
وقال الكلبيُّ : قدم حَبْران من أحبار الشام على النبي ﷺ فلما أبْصَرَ المدينةَ قال أحدهما : ما أشبه هذه المدينةَ بصفة مدينةِ النبيّ الذي يخرج في آخر الزمان ؟ فلما دخَلاَ عليه عرفاه بالصفة، فقالا له : أنت محمد ؟ قال : نعم، قالا : وأنت أحمد ؟ قال : أنا محمد وأحمد، قال : فإنا نسألك عن شيء، فإن أخبرتنا به آمَنَّا بك، وصدقناك، فقال : سَلاَ، فقالا : أخبرنا عَنْ أعظم شهادة في كتاب الله عز وجل، فأنزل الله هذه الآيةَ، فأسلم الرجلان.

فصل قال بعض المفسرين : شهد الله، أي : قال.


وقيل : بَيَّن الله ؛ لأن الشهادة تبيين.
وقال مجاهد : حَكَم الله.
وقيل : أعْلَمَ الله أنه لا إله إلا هو.
فإن قيل : المدَّعِي للوحدانية هو الله - تعالى - فكيف يكون المدَّعِي شاهداً ؟ فالجوابُ من وجوهٍ : أحدها : ما تقدم من أن " شَهِدَ " بمعنى " قال " أو " بَيَّن " أو " حَكَم ".
الثاني : أن الشاهدَ الحقيقي ليس إلا الله - تعالى - ؛ لأنه الذي خلق الأشياءَ، وجعلها دلائلَ على توحيده، فلولا تلك الدلائلُ لم يتوصل أحد إلى معرفته بالوحدانيةِ، فهو - تعالى وفقهم، حتى أرشدهم إلى معرفة التوحيد، وإذا كان كذلك كان الشاهد على الوحدانيةِ هو الله تعالى، ولهذا قال :﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهِ شَهِيد﴾ [الأنعام : ١٩].
الثالث : أنه الموجود - أزلاً وأبداً - وكل ما سواه فقد كان في الأزل عدماً صِرْفاً، والعدم غائب، والموجود حاضر، وإذا كان ما سواه - في الأزل - غائباً، وهو - تعالى - حاضر فبشهادته صار شاهداً، فكان الحق شاهداً على الكل، فلهذا قال :﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ﴾.
فصل تقدم أن شهادة اللهِ الإخبار والإعلام، ومعنى شهادة الملائكة والمؤمنين الإقرار والمراد بأولي العلم، قيل : الأنبياء - عليهم السلام -.
قال ابنُ كَيْسَان : يعني المهاجرين والأنصار.
وقال مقاتل : علماء مؤمني أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأصحابه.
٩٤
قال السُّديُّ والكلبيُّ : يعني جميع المؤمنين الذين عرفوا وحدانية الله - تعالى - بالدلائل القاطعة ؛ لأن الشهادة إنما تكون مقبولة، إذا كان الإخبار بها مقروناً بالعلم، ولذلك قال - عليه السلام - :" إذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ ".
فإن قيل : إذا كانت شهادةُ الله عبارةً عن إقامة الدلائل، وشهادة الملائكة، وأولي العلم عبارة عن الإقرار، فكيف جمعهما في اللفظ ؟ فالجواب : أن هذا ليس ببعيد، ونظيره قوله - تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ﴾ [الأحزاب : ٥٦]، ومعلوم أن الصلاة من الله تعالى الرحمة - كما ورد - ومن الملائكة الدعاء، ومن المؤمنين الاستغفار، وقد جمعهما في اللفظ.
فصل دلّت هذه الآيةُ على فَضْل العلم وشرف العلماء ؛ فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء لقرنه الله باسمه واسم ملائكته، كما قرن الله اسم العلماء، وقال تعالى - لنبيه - :﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾ [طه : ١١٤]، فلو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله - تعالى - نبيَّه المزيد منه، كما أمره أن يستزيد من العلم.
وقال عليه السلام :" الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأنْبِيَاءِ "، وقال :" العُلمَاءُ أمناء اللهِ عَلَى خَلْقِهِ " [وهذا شرف للعلماء عظيم، ومحل لهم في الدين خطير].
قوله تعالى :﴿قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ﴾ في نَصْبه أربعة أوجه : أحدها : أنه منصوب على الحال، واختلفوا في ذلك ؛ فبعضهم جعله حالاً من اسم " اللهُ "، فالعامل فيها " شَهِدَ ".
قال الزمخشري : وانتصابه على أنه حال مؤكِّدة منه، كقوله تعالى :﴿وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقا﴾ [البقرة : ٩١].
قال أبو حيّان : وليس من باب الحال المؤكدة ؛ لأنه ليس من باب ﴿وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً﴾ [مريم : ١٥] ولا من باب : أنا عبد الله شجاعاً فليس " قَائِماً بِالْقِسْطِ " بمعنى " شَهِدَ " وليس مؤكداً مضمونَ الجملة السابقة في نحو : أنا عبد الله شجاعاً، وهو زيد شجاعاً، لكنْ في هذا التخريج قلقٌ في التركيب ؛ يصير كقولك : أكل زيدٌ طعاماً وعائشةُ وفاطمةُ جائعاً، ففصل بين المعطوف عليه، والمعطوف بالمفعول، وبين الحال وصاحبه بالمفعول، والمعطوف، لكن يمشيه كونها كلُّها معمولةٌ لعاملٍ واحدٍ.
قال شهاب الدينِ : مؤاخذته له في قوله " مؤكِّدة " غير ظاهرةٍ، وذلك أن الحالَ على قسمين :
٩٥


الصفحة التالية