قلتُ : نعم ؛ لأنها حالٌ مؤكِّدةٌ، والحال المؤكدة لا تستدعي أن يكون في الجملة - التي هي زيادة في فائدتها - عامل فيها، كقولك :" أنا عبد الله جاعاً "، يعني : أن الحال المؤكِّدة لا يكون العامل فيها النصب شَيْئاً من الجملة السابقة قبلها، إنما تنتصب بعامل مضمر، فإن كان المتكلم مُخْبِراً عن نفسه، نحو أنا عبد الله شجاعاً قدرته : أحُقَّ - مبنياً للمفعول - شجاعاً، وإن كان مُخبراً عن غيره قدرته - مخبراً عن الفاعل - نحو هذا عبد الله شجاعاً أي : أحقه، هذا هو المذهب المشهور في نَصْب مثل هذه الحال، وفي المسألة قولٌ ثانٍ - لأبي إسحاق - أن العامل فيها هو خبر المبتدأ ؛ لِمَا ضُمِّنَ مِنْ مَعْنَى المشتق ؛ إذْ هو بمعنى المُسَمَّى، وقول ثالث أن العامل فيها المبتدأ ؛ لما ضُمِّن من معنى التنبيه وهي مسألة طويلة.
وبعضم جعله حالاً من الجميع على اعتبار كل واحدٍ قائماً بالقسط، وهذا مناقض لما قاله الزمخشري من أن الحال مختصة بالله - تعالى - دون ما عُطِف عليه، وهذا المذهب مردود بأنه لو جاز ذلك لجاز : جاء القوم راكباً، أي : كل واحد منهم " راكباً " والعربُ لا تقول ذلك ألبتة ففسد هذا، فهذه ثلاثة أوجهٍ في صاحب الحال.
الوجه الثاني من أوجه نصب قائماً : نصبه على النعت للمنفي بـ " لا " كأنه قيل : لا إله قائماً بالقسط إلا هو.
قال الزمخشريُّ :" فإن قلتَ : هل يجوز أن يكون صفةً للمنفي، كأنه قيل : لا إله قائماً بالقسط إلاَّ هو ؟ قلتُ : لا يَبْعد ؛ فقد رأيناهم يتسعون في الفصل بين الصفة والموصوف " ثم قال :" وهو أوجه من انتصابه عن فاعل " شَهِدَ "، وكذلك انتصابه على المدح ".
قال أبو حيّان " :" وكأن الزمخشريَّ قد مثل في الفصل بين الصفة والموصوف بقوله : لا رجل إلا عبد الله شجاعاً، ...
وهذا الذي ذكره لا يجوز ؛ لأنه فصل بين الصفة والموصوف بأجنبي وهو المعطوفان اللذان هما ﴿وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ﴾، وليسا معمولَيْن لشيءٍ من جملة ﴿لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ﴾، بل هما معمولان لـ " شَهِدَ "، وهو نظير : عرف زيدٌ أنَّ هِنْداً خَارِجَةٌ وعمرو وجَعْفَرٌ التميميَّةَ، فيفصل بين " هند " و " التميمية " بأجنبي ليس داخلاً في خبر ما عمل فيها، وذلك الأجنبي هو " عمرو وجعفر " المرفوعان المعطوفان بـ " عرف " - على زيد، وأما المثال الذي مَثَّل به، وهو : لا رجل إلا عبد الله شجاعاً، فليس نظير تخريجه في الآية ؛ لأن قولك : إلا عبد الله، بدل على الموضع من " لا رجل "، فهو تابع على الموضع، فليس بأجنبي على أنَّ في جواز هذا التركيب نظراً ؛ لأنه بدل، و " شجاعاً " وصف، والقاعدة : أنه إذا اجتمع البدل والوصف قُدِّم الوصف على البدل، وسبب ذلك أنه على نية تكرار العامل - على الصحيح - فصار من جملة أخْرَى على هذا المذهب ".
٩٧
الوجه الثالث : نصبه على المدح.
قال الزمخشري : فإن قلت : أليس من حق المنتصب على المدح أن يكون معرفة، كقولك : الحمدُ للهِ الحميدَ، " إنَّا - مَعْشَرَ الأنْبِيَاءِ - لا نُورَثُ "، وقوله :[البسيط] ١٣٦٨ - إنَّا - بَنِي نَهْشَلٍ - لا ندعِي لأبٍ
............................
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٩١
قلتُ : قد جاء نكرةً كما جاء معرفةً، وأنشد سيبويه - مما جاء منه نكرة - قول الْهُذَلِيّ :[المتقارب] ١٣٦٩ - وَيَأوِي إلَى نِسْوَةٍ عُطَّلٍ
وَشُعْثاً مَرَاضِيعَ مِثْلَ السَّعَالِي
قال أبو حيان :" انتهى هذا السؤال وجوابه، وفي ذلك تخليط ؛ وذلك أنه لم يُفَرِّقُ بين المنصوب على المدح، أو الذم، أو الترحم، وبين المنصوب على الاختصاص، وجعل حكمَها واحداً، وأوْرَد مثالاً من المنصوب على المدح، وهو الحمد لله الحميدَ، ومثالَيْن من المنصوب على الاختصاص، وهما :" إنَّا - مَعْشَرَ الأنْبِيَاءِ - لا نُورَثُ "، وقوله :" إنَّا - بَنِي نهشل - لا ندَّعِي لأب " والذي ذكره النحويون أن المنصوبَ على المدح أو الذم أو الترحُّم، قد يكون معرفة، وقبله معرفة - يصلح أن يكون تابعاً لها، وقد لا يصلح - وقد يكون نكرةً وقبله معرفة، فلا يصلح أن يكون نعتاً لها.
نحو قول النابغة : ١٣٧٠ - أقَارعُ عَوْفٍ، لا أحَاوِلُ غَيْرَهَا
وُجُوهَ قُرُودٍ تَبْتَغِي مَنْ تُجَادِعُ
فنصب " وُجُوهَ قُرُودٍ " على الذم، وقبله معرفة، وهي " أقارعُ عَوْفٍ "، وأما المنصوب على الاختصاص فنصوا على أنه لا يكون نكرةً، ولا مُبْهَماً، ولا يكون إلا معرَّفاً بالألف واللام، أو بالإضافة، أو بالعلميَّة، أو لفظ " أي "، ولا يكون إلا بعد ضمير متكلم مختص
٩٨


الصفحة التالية
Icon